نخبة بوست – هزاع البراري ( أمين عام وزراة الثقافة الأسبق)


منذ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 عام 1947 والذي عُرف بقرار تقسيم فلسطين بين اليهود والعرب، والذي رفضه العرب حينها، والحديث قائم بشأن حل الدولتين، وهو حديث تحول بعد نكسة حزيران 1967 إلى واقع يفرض نفسه، واقع مرير ظل مرفوضا من قبل كثير من القوى والنخب الفلسطينية والعربية، غير أن الانحياز الغربي وتوالي النكسات العسكرية والدبلوماسية والانقسامات، وما أفرزته حرب تشرين عام 1973 التي اشتركت فيها مصر وسوريا وأرسل الأردن أفضل تشكيلاته العسكرية – لواء الأربعين – لمساندة الجبهة السورية في الجولان وكذلك فعل العراقيون.

هذه الحرب التي بادر بها العرب، سميت فيما بعد حرب تحريك لا حرب تحرير، أي أن الهدف البعيد نسبيا هي تحقيق ضغط عسكري يفضي إلى تحريك الحل السلمي، وأن يكون العرب / مصر بموقف تفاوضي أفضل بعد عبور قناة السويس، فذهبت مصر إلى خيار الحل التفاوضي المباشر والفردي، لقطف ثمار الحرب وهي ساخنة

هزاع البراري ( أمين عام وزراة الثقافة الأسبق)


لقد تزامن ذلك مع تدهور الأوضاع في جنوب لبنان منذ منتصف سبعينات القرن الماضي واندلاع الحرب الأهلية، واجتياح إسرائيل للبنان ومحاصرتها بيروت، لتكون أول عاصمة عربية مهددة بالسقوط والاحتلال، وما نتج عن ذلك من خروج المقاومة الفلسطينية – كوادر منظمة التحرير الفلسطينية – من لبنان باتجاه تونس وبعض المنافي البعيدة.

مع توقيع معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل – معاهدة كامب ديفيد – برز الصوت العربي الرسمي وكثير من القوى بشكل أكثر وضوحا وجدية بتبني حل الدولتين وإقامة الدولة الفلسطينية المكتملة الأركان على حدود الرابع من حزيران 1967، حدود ما قبل النكسة، وهو توجه له غطاء دولي ومباركة عربية وقبول فلسطيني إلى حد كبير، وقد جاء قرار الأردن بفك الارتباط القانوني والإداري مع الضفة الغربية عام 1988 في سياق هذا التوجه العربي المتبني لحل الدولتين


توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين الرئيس المصري السابق محمد أنور السادات، ورئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي مناحيم بيغن برعاية الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر ( أرشيفية)

كانت الظروف الإقليمية والدولية والأوضاع داخل إسرائيل قد جعلت من خيار حل الدولتين هو الأكثر واقعية ومنطقية، في ظل الوضع العام عربيا وإسرائيليا، وكان الرأي العام في الداخل الإسرائيلي يدعم هذا الخيار قبل نمو اليمين المتطرف المدعوم من الأحزاب الدينية، الذين يجدون في حل الدولتين ضربا في صميم الرواية اليهودية المزعومة، وتهديداً وجودياً لهذا الكيان المصطنع، لذا بدأ السياق العام الذي أوجد مفاوضات مدريد في أعقاب حرب الخليج الأولى والثانية، وتوقيع اتفاقية أوسلو التي نتجت عن مفاوضات سرية بعيداً عن الوفد الرسمي الذي تشكل من أجل مفاوضات مدريد، لكنها – إتفاقية أوسلو – جاءت أيضاً في إطار حل الدولتين على مراحل بدأت من مرحلة غزة – أريحا أولا وصولا إلى مفاوضات الحل النهائي، وقد نتج عن ذلك انتقال كوادر منظمة التحرير الفلسطينية إلى أريحا ومن ثم رام الله.

ما الذي حدث؟ ولماذا تغير كل شيء؟

حدث الكثير عربياً وإقليمياً وإسرائيلياً، وتغير الكثير أيضا تبعا لذلك، ومن الصعب الإحاطة بكل مسارات هذه التحولات، لكن لا شك أن الحصار على العراق، والضيق الاقتصادي والسياسي على دول عارضت التدخل الأجنبي في حرب الخليج الثانية، واغتيال اسحاق رابين عرّاب أوسلو 1995، وما طرأ على المزاج العام في الداخل الإسرائيلي الذي أخذ ينزاح نحو اليمين ويمين اليمين، وما نتج عن هجمات 11 سبتمبر 2001، والتي اتخذتها أمريكا حجة لقيادة حملة عالمية لمحاربة الإرهاب، وبالتالي ذريعة للحرب على أفغانستان لإسقاط حكم طالبان المدعوم من القاعدة، وملاحقة أسامة بن لادن وأبرز قادته، وغزو العراق وسقوط نظام صدام حسين، وما أصاب المنطقة من ضعف عام، وانقسامات أفقية وعمودية، مكنت إسرائيل من تقوية التيار المعادي لحل الدولتين.

وتسلم نتياهو الذي لا يؤمن بالسلام زمام الأمور، وقد أعادت هذه القوى المتطرفة اجتياح الضفة الغربية عسكريا بحجة قمع الانتفاضة الثانية، لكن الهدف كان هو إفشال أوسلو على الأرض، من خلال السيطرة العسكرية، وإضعاف السلطة الفلسطينية، وتأييد بل والمساهمة في الإنقسام الفلسطيني، وفصل غزة عن الضفة من خلال حكم محلي لا يعترف بالكوادر الإدارية للسلطة.

سعت إسرائيل إلى خلق مقاربة أو معادلة جديدة فرضتها على الأرض، وعملت على تسويقها عالميا، فلقد قامت بسلسلة من الإجراءات المؤثرة خلال العقدين الماضيين، والتي أرادت من خلالها إجهاض حل الدولتين عمليا وجعله في إطار المستحيل


فقد ماطلت حد التعنت في مفاوضات الحل النهائي، ورفضت حق العودة والتعويض، وتمسكت بالقدس خلافا لكل التعهدات السابقة، كما عملت على التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية بشكل غير مسبوق، ولم ترضخ للمطالبات العربية والضغوط الدولية، بل أن الاستيلاء على الأراضي وبناء المستوطنات الجديدة وبهذا التوزيع الجغرافي المدروس، بحيث تحيط المستوطنات الكبرى بمعظم المدن الفلسطينية، والمضايقات والملاحقات الأمنية اليومية، وخنق السلطة اقتصاديا وأمنيا وإضعافها شعبيا، والتراجع الفعلي عن كثير مما أتفق عليه، والتنصل من معاهدات دولية وقعت برعاية أمريكية ومباركة عالمية، حتى أعلن نتياهو مؤخرا وبشكل صريح أنه لن يسمح بإقامة دولة فلسطينية، حتى أن بايدن حين زار إسرائيل بعد توليه رئاسة أمريكا أعلن أن حل الدولتين لا يسمح به الوقت الحالي، وهي رسالة واضحة واعتراف بالوضع على الأرض الذي أوجدته إسرائيل.

إذن ما هي المقاربة الإسرائيلية التي تسعى إلى فرضها كبديل لحل الدولتين؟

لا شك أن إسرائيل ترى في إقامة دولة فلسطينية مكتملة على حدود الرابع من حزيران 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، يشكل خطرا وجوديا على بقائها، فهي دولة تسكن في عمق إسرائيل، وقابلة للنمو السكاني بشكل سريع، وهو ما يهدد دولتهم ويجعلها في مهب الريح مستقبلا، لذا فهي تسعى بكل ما تستطيع إلى منع قيام هذه الدولة، كما أن إسرائيل لا تقبل بدمج الفلسطينيين في إسرائيل ومنحهم حقوق المواطنة ضمن دولة قانون، لأن التفوق الديمغرافي سيكون حتماً لصالح الفلسطينيين، وهذا أشد خطورة على إسرائيل من حل الدولتين، لأنه سينهي دولة إسرائيل من الداخل، وتعيد الدولة للفلسطينيين من النهر إلى البحر وبشكل سلمي ديمقراطي، وهو أمر لن تسمح به إسرائيل، ولأنها تتخوف حتى من الفلسطينيين في الداخل، تتصرف ومن خلال القوانين بيهودية الدولة والقومية اليهودية، مما يؤكد عنصريتها رغم إدعاء الديمقراطية الزائفة.

ما الحل إسرائيليا؟ وهي ترفض حل الدولتين تحت أي سياق، وترفض دمج الفلسطينيين مع أن هذا الخيار غير مقبول فلسطينيا ولا مقبول عربيا، لكنه غير مقبول إسرائيليا أيضا، بل ومرفوضا بشدة من قبلهم


إن الممارسات العملية واليومية، تكشف جلياً البعد الاستراتيجي لما تسعى إليه إسرائيل، والذي يقوم عماده على اللاحل، وأن يبقى الوضع برسم الاحتلال، وأن يتخلل ذلك إستمرار إضعاف الفلسطينيين إقتصاديا، والتضييق عليهم حياتيا، وحرمانهم من أبسط حقوقهم في العيش بحرية وكرامة، بهدف دفعهم وخاصة الشباب منهم إلى الهجرة الطوعية والتي هي إجبارية في جوهرها، وتحويل السلطة الفلسطينية إلى ما يشبه الحكم المحلي / خدمات بلدية داخل المدن الرئيسية وترتهن إقتصاديا وأمنيا لإسرائيل، والعمل باستمرار على تعميق الانقسام الفلسطيني، وإستمرار قضم الأراضي وبناء المستوطنات، وإدامة اللاحل / اللادولة واللاإندماج، باعتباره هذا هو الحل النهائي الذي تريده إسرائيل.

وهذا أخطر مرحلة في محاولة تصفية القضية الفلسطينية وتمييع مستقبلها، وهذا يتطلب حالة مراجعة عربية وفلسطينية، والتعامل مع هذه السياسة / الاستراتيجية بشكل مغاير، فلا بد من تغيير قواعد اللعبة السياسية بما يكمح جماح هذه السياسة ، ويقوض أركانها وهذا لا يكون من خلال جهد طرف واحد بل هو سياق عام يستوجب جهودا كبيرة و مخلصة لبنائه وتمكينه من التأثير على مخططات إسرائيل وإفشالها.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version