نخبة بوست -إريك دالاكر

في الوقت الذي يشهد فيه الشرق الأوسط عدة صراعات محتدمة، ينتظر العالم بترقب لمعرفة المسار الذي ستسلكه السياسة الخارجية للولايات المتحدة تجاه المنطقة بعد الانتخابات الأميركية في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني القادم. فعلى الرغم من زيادة شعبية كاميلا هاريس، كمرشح للحزب الديمقراطي، ما يزال الكثيرون يرجحون عودة دونالد ترامب للبيت الأبيض. وبالتالي، كيف ستتعامل إدارة ترامب الجديدة مع الشرق الأوسط؟ وما هي القضايا المُلحة التي يتعين على إدارته التعامل معها؟ تلقي هذه المقالة نظرة أعمق على سياسة ترامب الخارجية التي لا يمكن التنبؤ بها، من خلال تفحص مواقفه من الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والعلاقات الإيرانية-الأميركية، والتطبيع العربي-الإسرائيلي. 

الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي: هل يملك ترامب خطة سلام حقيقية؟

في حين أن دعم ترامب لإسرائيل لا لُبس فيه، ما تزال هناك العديد من الأسئلة حول كيفية تعامله مع الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني الحالي إذا أعيد انتخابه، فلطالما ادّعى ترامب في أوقات سابقة بأنه “أفضل صديق لإسرائيل على الإطلاق”، في إشارة لقراراته غير المسبوقة لصالح إسرائيل. وخلال إدارته الأخيرة، قام بنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس، واعترف بهضبة الجولان كجزء من الأراضي الإسرائيلية، وطرح خطة “السلام من أجل الازدهار”، المعروفة باسم “صفقة القرن”، والتي تعتبر الأكثر توافقًا مع إسرائيل من أي خطط سلام سابقة. وبعد اختياره لجي دي فانس المؤيد القوي لإسرائيل، كمرشح لمنصب نائب الرئيس؛ فمن المتوقع أن إدارة ترامب الجديدة لن تكون أقل تأييدًا لإسرائيل من الأولى؛ فحتى الآن، وخلال حملته الانتخابية عام 2024، انتقد ترامب تعامل بايدن مع الحرب في غزة، بل وصل به الأمر لحد وصفه بأنه “فلسطيني سيء للغاية” خلال المناظرة الأولى التي جمعتهما. ومع ذلك، ووفقًا للخبير في السياسة الخارجية الأميركية، البروفيسور غريغوري غوس؛ فإن الفرق بين بايدن وترامب بشأن الصراع الفلسطينية – الإسرائيلية؛ هو في الخطاب وليس في السياسة العملية. حيث لا يوجد أي تكلفة سياسية على ترامب نتيجة لدعمه المطلق لحكومة نتنياهو، لأن حزبه “يرتكز على أقل عنصر تشكيك في الدعم الأميركي لإسرائيل”، في حين أن إدارة بايدن وهاريس تخاطر باستبعاد قطاعات رئيسية من قاعدة التصويت الخاصة بالحزب الديمقراطي، إذا امتنعوا من انتقاد التصعيد الإسرائيلي للحرب. ومع ذلك، يواصل الرئيس بايدن دعم إسرائيل عسكريًا واقتصاديًا، مما يُظهر ترددًا في فَرض ضغوط أكبر على نتنياهو. 

على الرغم من أن نهج ترامب العملي تجاه إسرائيل قد يبدو أكثر تماشيًا مع النهج الحالي لإدارة بايدن-هاريس، إلا أن ترامب يقتنع بأنه إذا فاز بإدارة جديدة، فإن إسرائيل ستنهي حربها وسيتحقق السلام. ومع ذلك، فإن كيفية تحقيق ترامب لهذا الهدف ما تزال غير مؤكدة. فمن ناحية، يؤكد كل من ترامب وجي دي فانس على أهمية تزويد إسرائيل بكل الدعم الذي تحتاجه “لإنهاء المهمة” ، ولكن من ناحية أخرى، ينتقد ترامب إسرائيل لفقدانها لمكانتها الدولية، بالإضافة لدعوته كلا الجانبين لـ “لعودة إلى السلام والتوقف عن قتل الناس”. وبالتالي، يطرح سؤال رئيسي؛ هل سيتخذ ترامب إجراء حاسمًا للضغط على نتنياهو والدخول في مفاوضات سلام جادة، أم أنه سيسمح لإسرائيل بمواصلة حربها بتدخل وانتقاد أقل مقارنة بإدارة بايدن؟ لم يقدم ترامب ولا حملته الانتخابية أي تفاصيل جوهرية حول كيفية مساعدة الولايات المتحدة لإسرائيل “لإنهاء المهمة”، ولا حول كيفية توافق مثل هذا الجهد مع غزة بعد الحرب، ولا حتى حول حل الدولتين. ووفقًا للسفير الأميركي السابق في سوريا وإسرائيل إدوارد جرجيان؛ فإن أفضل مؤشر على معرفة ما إذا كان ترامب سينجح في إنهاء حرب تضر بهدف الولايات المتحدة الداعي للاستقرار في المنطقة، سيكون في مدى قدرته على صد نتنياهو وعدم “الخلط بين​​ مصالح الأمن القومي الأميركي ومصالح الأمن القومي المتصورة لإسرائيل”. حيث ستعتمد صورة ترامب كصانع سلام وقائد حازم في السياسة الخارجية على قدرته من الاستفادة من الثقل الجيوسياسي للولايات المتحدة، لوقف إسرائيل من سحب أميركا للدخول في حرب تتعارض مع الاستراتيجية الأميركية.

إيران: أصل كل الشرور؟ 

في حين يبدو ترامب غير واضح حول كيفية تعامله مع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، إلا أن سياسته تجاه إيران أكثر رسوخًا. فوفقًا للبروفيسور غوس، فإن الفرق الأكبر بين إدارة بايدن الحالية وإدارة ترامب الثانية المحتملة؛ سيكون في النهج المتبع في فرض العقوبات على إيران. حيث انسحب ترامب من خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) في عام 2018، وكانت إدارة بايدن تحاول استئناف المحادثات الدبلوماسية حول صفقة نووية جديدة. إلا أن فوز ترامب في الانتخابات؛ من المُرجح أن يؤدي لعودة الولايات المتحدة إلى تكتيك عبرت عنه إدارته بـ “الضغط الأقصى” على إيران. في الواقع، يدعو مشروع 2025، وهو برنامج تصفه صحيفة واشنطن بوست بأنه “التعبير الأكثر تفصيلًا عما قد يفعله ترامب في فترة ولاية ثانية”، إلى مضاعفة العقوبات على إيران، ودعم الحركات الإيرانية المناهضة للحكومة، لتكون على رأس أولويات السياسة الأميركية في الشرق الأوسط إذا فاز ترامب في الانتخابات.

ويرتكز نهج ترامب المتشدد تجاه إيران، على الاعتقاد الراسخ داخل دائرة المقربين منه بأن إيران هي المصدر الحقيقي لجميع الاضطرابات في المنطقة. وكما قال مستشار ترامب السابق للأمن القومي روبرت أوبراين: “لا يمكن حل الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني حتى يتم احتواء إيران”. غير أن السفير دجيرجيان يشكك في هذا التحليل بقوله؛ إن الواقع يشير إلى أن “التوصل لحل في الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؛ سيُخرج الرياح من أشرعة محور المقاومة”، وليس العكس. ووفقًا لجريجيان أيضًا، فإن ترامب ومستشاريه يفشلون باستمرار في رؤية أن حدود إسرائيل ستكون أكثر أمانًا إذا وجدت ظروف لم يكن فيه حزب الله والميليشيات الأخرى المدعومة من إيران مستفيدة من محنة الشعب الفلسطيني. وعلاوة على ذلك، يشير إلى أن نهج ترامب المعتاد في استبعاد تحسين العلاقات مع إيران تمامًا، يتعارض مع أسلوبه الانتهازي في الدبلوماسية. فعلى الرغم من تاريخ ترامب في الاجتماع مع الخصوم التقليديين للولايات المتحدة، فإن أي تقارب مع إيران في فترة رئاسة ثانية لا يزال مستبعدًا للغاية، حتى في الوقت الذي أعرب فيه الرئيس الإصلاحي المنتخب حديثًا مسعود بيزشكيان عن آمالٍ باهتة في التوافق مع الغرب.

ما وراء اتفاقات أبراهام: مزيد من العقبات أمام التطبيع 

من الأولويات الرئيسية الأخرى لإدارة ترامب الثانية؛ زيادة التطبيع بين إسرائيل والدول العربية المحيطة بها.  وتعتبر اتفاقات ابراهام لعام 2020، التي أقامت من خلالها إسرائيل علاقات دبلوماسية مع عدد من الدول العربية، ولأول مرة منذ سنة 1994، ويعتقد الكثيرين أنه؛ أكبر إنجاز دبلوماسي لترامب في الشرق الأوسط خلال فترة ولايته الأخيرة. حيث جاءت هذه الاتفاقيات نتيجة لنهجٍ ابتكره صهر ترامب وكبير مستشاريه جاريد كوشنر، كنتيجة للجولات الدبلوماسية المكوكية التي قام بها، لتصبح شهادة نهائية على السياسة الخارجية الانتهازية والصيغة التعاقدية لإدارة ترامب. وفي حين أشاد الموقعون على الاتفاق باعتباره خطوة كبيرة نحو السلام في المنطقة، وإشارة مؤيديه لمحاولة إدارة بايدن البناء على الاتفاقات السابقة كدليل لتسجيلها كنجاح لها. ومع ذلك، فقد استخف النقاد مثل السفير دجرجيان بالاتفاقات لأنها تجاوزت القضية الفلسطينية الأساسية في الإقليم، مستدلًا بأن الحرب الأخيرة في غزة خير دليل على أنه لا يمكن أن يكون هناك سلام دائم في المنطقة دون حل سياسي للصراع بين إسرائيل وفلسطين. 

وكان من المتوقع أن تكون المملكة العربية السعودية هي الدولة التالية لتطبيع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل.  ففي خريف عام 2023، كان الدبلوماسيون الأميركيون على وشك الانتهاء من صفقة ثلاثية؛ تحصل فيها المملكة العربية السعودية على معاهدة دفاع أميركية رسمية، مع التزامات أمنية مضمونة مقابل التطبيع مع إسرائيل، والتي سيتعين عليها الاتفاق على الالتزام بحل الدولتين، حتى من دون أي خطة جادة لتنفيذه. ومع ذلك، فإن أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول وما تبعها؛ وضعت حدًا فوريًا للمفاوضات. 

أما إذا أعيد انتخاب ترامب؛ فمن المرجح أن يكون مهتمًا بإعادة تسهيل المحادثات بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية وإسرائيل. ومع ذلك، تتبقى عقبتان رئيسيتان أمام تحقيق مثل هذا الاتفاق؛ أولًا، يرى السفير دجيرجيان، “إن ثمن التطبيع أصبح أعلى بكثير” من السابق. وفي الواقع، تحدث وزير الخارجية السعودي في مقابلة مع CNN في يناير/كانون الثاني 2024، بأنه لا يمكن أن يكون هناك تطبيع مع إسرائيل دون مسار جاد لإقامة دولة فلسطينية. وحتى الآن، تبدو أي تنازلات من جانب إسرائيل مستحيلة، خاصة بالنظر للحكومة اليمينية المتطرفة الحالية. ومع ذلك، حتى لو حقق ترامب التنازلات الضرورية من قبل إسرائيل، أو استمر في التفاوض على صفقة ثنائية مع المملكة العربية السعودية لنقلها بعيدًا عن مجال النفوذ الصيني؛ يشير البروفيسور غوس إلى أن ترامب سيواجه على الأرجح تحديًا محليًا ثانيًا، حيث تتطلب معاهدة الدفاع الأميركية مصادقة ثلثي مجلس الشيوخ. وقبل السابع من أكتوبر، رأى الرئيس بايدن فرصة ذهبية للمضي قدمًا في الاتفاق. حيث أشارت القديرات لوجود ما يكفي من أصوات المشرعين الجمهوريين المؤيدين للاتفاق، وأن الديمقراطيين القلقين من قيام الولايات المتحدة ببناء علاقات أوثق مع المملكة العربية السعودية؛ سيبقون موالين لرئيسهم وسيدعمون التصديق على الاتفاقيات. أما عن ترامب؛ فمن غير المرجح أن يحصل على نفس الدعم من الحزبين، حيث إن معارضة أعضاء الكونجرس الديمقراطيين ستزداد قوة، مدفوعة برغبتهم في عدم منحه انتصارًا لحزبهم على مستوى السياسة الخارجية. ونتيجة لذلك، فإن التوصل إلى اتفاق ثنائي محدود مع المملكة العربية السعودية، على غرار اتفاقية التعاون الأمني مع البحرين، هو الاحتمال الأقرب للتحقق.

الخلاصة: هل توجد عقيدة خاصة بترامب؟

إذا كان هناك أي شيء يظهر من دراسة سياسة ترامب في الشرق الأوسط؛ فهو المستوى العالي من عدم القدرة على التنبؤ به. ففي حين يتصرف في بعض الحالات بانتهازية وبراغماتية، لكنه في حالات أخرى، يبدو ثابتًا على مواقفه. وفي مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز”، وصف المستشار السابق للأمن القومي أوبراين ترامب بأنه: “لا يلتزم بعقيدة، بل بغرائزه الخاصة”. وبصفته رجل أعمال، فإن تصوراته حول العلاقات الدبلوماسية هي مجرد أفكار تجارية، حيث يرى في كل اجتماع فرصة للتوصل لاتفاق. وفي العالم الدبلوماسي، يُنظر لمثل هذه الانتهازية بشكل سلبي؛ لأنها قد تتجاوز تدابير بناء الثقة التقليدية بين الدول، ومع ذلك يجادل الكثيرون بأن نهجه كان سببًا مهمًا وراء اتفاقات أبراهام، وغيرها من نجاحاته في السياسة الخارجية. ويدعي ترامب أن هذا النهج قد جعل منه صانع سلام في الشرق الأوسط، مشيرًا لنجاحه في اتفاقات أبراهام، وانسحاب معظم القوات الأميركية من سوريا بعد إعلان هزيمة داعش، ولكنه في ذات الوقت امتنع عن الانخراط عسكريًا بعد تعرض المنشآت النفطية في بقيق خريص – السعودية للهجوم سنة 2019.

ومع ذلك، لا يمكن تصنيف سياسة ترامب الخارجية في المنطقة على أنها انعزالية تمامًا، في الواقع، تمثل الانتهازية نهجًا لترامب بحيث لا يمكن التنبؤ به، وهو ما يقود للعديد من المفارقات. فعلى سبيل المثال، يشدد باستمرار على مبدأ “أميركا أولًا”، وينتقد الانخراط في “الحروب الأبدية”، لكنه يعبر عن دعمه العسكري غير المشروط لإسرائيل في صراعها الطويل مع فلسطين. علاوة على ذلك، ففي حين أنه منفتح على التعامل مع القادة غير الديمقراطيين، فإنه يستبعد جميع إمكانيات تحسين العلاقات مع إيران. وبالتالي، يمكن وصف سياسة ترامب في الشرق الأوسط عمومًا بأنها براغماتية وانتهازية، لكن موقفه الثابت كمؤيد لإسرائيل ومعادي لإيران يظهر أن هناك حدودًا معينة لهذا التحليل. وكما يصف البروفيسور غوس، ففي أي قضية معينة، فإن ترامب “ربما يستيقظ ويغير رأيه في اليوم التالي”. وكخلاصة، فإن العقيدة الحقيقية الوحيدة التي يلتزم بها ترامب هي عدم إمكانية التنبؤ به. 

معهد السياسة والمجتمع


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version