* الدفع بالعمل السياسي إلى أن يكون صراعاً بين أنصار الدين وأعدائه أو أنصار التحرر والمقاومة وأعداؤها؛ يجعل تفكيك الأزمات والخلافات السياسية والاجتماعية أمراً صعباً ومعقداً
* الانتخابات مثل مباراة كرم القدم، مليئة بالمفاجآت، وكثيرا ما تقع المفاجآت التي تغير النتائج في اللحظات الأخيرة
* أسوأ مقولة طُرحت في هذه الانتخابات؛ إن الأردنيين سوف يختارون بين الهوية الإسلامية وغيرها من الهويات التي وصفت جهلا أو بسوء نية أنها غير إسلامية
* هذا الشعور بأن المنافس في الانتخابات “مختلف” في الهوية والإجماع الوطني والقومي، إذا لم يكن وهما أو انفصالا عن الواقع فإنه؛ شوفينية مقيتة
* يتحتم أن تكون جميع الاتجاهات والمقولات والطبقات والمصالح والأفكار تحظى بالحرية وفرص الاستماع والتداول حتى حين تستبعد بالتصويت والانتخاب، فقد تكون في جولة أخرى أغلبية
* عند تحويل الخلافات إلى صراعات دينية وأيديولوجية عميقة تصبح عصية على الحلّ وتستمر في الاستنزاف والهدر للموارد والشعوب عقوداً بل قروناً طويلة
* ليس ثمة صراع مقدس، إنه يتحول بذلك إلى غاية مستقلة عن رواية الخلاف والصراع، ثم ويا للكارثة يتحول إلى متعة وأسلوب حياة ومصالح واستثمارات
* الخلافات والانتخابات في أفقها العملي تشبه مباراة تحدد نتائجها أدوات وموارد وقدرات أطراف المباراة، وقوانين المباراة أيضاً، فإذا كانت مباراة بلا أفق واضح ولا قوانين وقواعد فإنها تتحول إلى هدف لذاتها أو تدمير للذات
نخبة بوست – إبراهيم غرايبة
قال تعالى “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون” ( المطفّفين 26)
ستكون الكتابة عن الانتخابات النيابية قبل يومين من ظهور نتائجها مغامرة تحليلية، وربما تتحول إلى موضع للسخرية إذا جاءت مخالفة للنتائج الواقعية. والانتخابات كما يقال مثل مباراة كرم القدم، مليئة بالمفاجآت، وكثيرا ما تقع المفاجآت التي تغير النتائج في اللحظات الأخيرة، لكن لا مناص لأغراض الكتابة على الأقل من دخول المغامرة وبناء خريطة متوقعة للنتائج تقديرا لإرادة الأمة؛ التي يصعب التنبؤ بها على مستوى نتائج الانتخابات النيابية، وأما ما فعله البعض من بناء نتائج الانتخابات أو الرغبة فيها بناء على الإرادة الكبرى (الهوية الدينية والقومية والتحررية) المستقلة عن الانتخابات فبرغم أنها مقولة متقبلة أو سائدة ومتواطأ عليها فإنه سلوك يعكس سماجة المتسولين.
لقد كانت أسوأ مقولة طرحت في هذه الانتخابات أن الأردنيين سوف يختارون في هذه الانتخابات بين الهوية الإسلامية وغيرها من الهويات التي وصفت جهلا أو بسوء نية أنها غير إسلامية.
وأسوأ من الشعور بالاحتكار والامتياز الإسلامي والمقاومتي مظنة أن الآخر ليس إسلاميا وليس مقاوما. إن هذا الشعور بأن المنافس في الانتخابات “مختلف” في الهوية والإجماع الوطني والقومي إذا لم يكن وهما أو انفصالا عن الواقع فإنه شوفينية مقيتة.
إنها موازنة صعبة واجتهادية أو تخمينية بين الخطأ والصواب في الحقيقة بين الأكثر صوابا أو الأقرب إلى الصواب وما هو أقل صوابا أو أبعد بين الصواب، واختيار محيّر أو متقارب بين الضرر والمنفعة، أو ما هو أكثر نفعا وأقل نفعا، وما هو أكثر ضررا أو أقل ضررا، وما هو حسن أو قبيح، أو أحسن أو أقل حسنا. إن الاختيارات في أفضل الديمقراطيات وأجملها تكون بين أغلبية تزيد على النصف قليلا، أو تقترب من الثلثين وبين أقلية تقل عن النصف وتصل إلى الثلث، ثم هي ليست أغلبيات وأقليات راسخة ودائمة لكنها تتحرك كل يوم وفي كل قضية وفي كل انتخابات مثل رمال الصحراء.
إن أحدا سوى الله لا يعرف الصواب، وما نفعله ليس سوى البحث عن الصواب ومحاولة الاقتراب منه، ولهذا السبب فقط نلجأ إلى الانتخابات، فالانتخابات تعكس الحيرة وعدم اليقين، إننا نضع أصواتنا لأننا لا نعرف تماما الصواب، ولو كنا نعرفه أو متأكدين منه فلا حاجة للانتخاب، فإذا كان مواطن يجمع عليه المواطنون بأنه أفضل من يعبر عن إرادتهم فإنه يصل إلى مجلس النواب بالتزكية، ليس تعدد المرشحين وتعدد الأفكار والتيارات سوى أننا لا نعرف الصواب على نحو يقيني.
وحين نختار مرشحا أو نصوت لحزب أو تيار أو فكرة أو قضية أو تشريع أو قرار فإننا نقر بما نحن نصوت وننتخب أننا لا نعرف الصواب وأننا نختار ما/ من ينال بأغلب الأصوات، وأنها أغلبية بحثنا عنها أو التمسناها قد لا تكون صوابا ونستبعد ما/ من ينال أصواتا أقل، وأنه استبعاد قد يعني أيضا استبعادا للصواب. ولذلك يتحتم أن تكون جميع الاتجاهات والمقولات والطبقات والمصالح والأفكار تحظى بالحرية وفرص الاستماع والتداول حتى حين تستبعد بالتصويت والانتخاب، فقد تكون في جولة أخرى أغلبية. إننا أيا كان اتجاهنا نعمل ضد أنفسنا حين نستبعد غيرنا أو نقصيه، ونلحق ضررا بالقضية التي نؤيدها أو ننحاز إليها حين نرفض من يخالفنا. فقد نكون مثله أو يكون مثلنا غدا.
الدفع بالخلاف والاختلاف والعمل السياسي إلى أن يكون صراعاً دينياً أو صراعاً بين أنصار الدين وأعدائه؛ أو أنصار التحرر والمقاومة وأعداؤها أو بين الوطنية والخيانة؛ يجعل تفكيك الأزمات والخلافات السياسية والاجتماعية أمراً صعباً ومعقداً، فبدلاً من أن تكون الخلافات، على سبيل المثال، حول إدارة وتوزيع الموارد العامة أو حول السياسات والتشريعات ، فإنّها تتحول بين أنصار الإسلام وأعدائه دون ملاحظة القواسم الدينية والعقدية المشتركة والعميقة بين جميع المشاركين في الحياة العامة والانتخابات.
هكذا فإنّ مساعي المشاركة السياسية أو التأثير فيها تتحول إلى جهاد في سبيل الله، ويكون الصراع أو الخلاف حولها حرباً بين الإيمان والكفر، ويصير الخلاف والتنافس السياسي والانتخابي كأنه حرب على الإسلام ويصف “الإسلامويون” أنفسهم “وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد” وتستحضر قصة مسجد الضرار وقصص المعارك والاضطهاد الذي تعرض له المؤمنون في التاريخ ويصير الإخوان المسلمون المؤمنون الذين حرقوا بالنار وصلبوا وقتلوا وتكون السلطات هي أصحاب البروج والفراعنة وغيرهم ممن حاربوا المؤمنين بالله.
في هذا الخلاف المصحوب بحالات الفشل السياسي والتنموي والشعور بالظلم لدى طبقات وفئات اجتماعية لأسباب كثيرة مختلفة لا علاقة لها بالإيمان والكفر، وغياب الحريات وضعف المجتمعات وهشاشتها ونقص الموارد وتنامي البطالة والفقر والتهميش، وضعف التعليم وفقدان المعنى والجدوى، وما تضيفه العولمة والهيمنة والاحتلالات والاختلالات والفجوات الاقتصادية والاجتماعية؛ والشعور بالقهر بسبب الاحتلال واختلال الموازين بين المقاومة والاحتلال؛ يتحالف اليأس الاجتماعي والشعور بالخوف والظلم مع مغامرة “الأهداف الكبرى”، وتتحول الجماعات الدينية إلى مظلة سياسية واجتماعية لأفراد وفئات واسعة من المهمشين والغاضبين، فيكتسب الخلاف السياسي عمقاً اجتماعياً واقتصادياً، وتتشكل للصراع قواعد وحواضن اجتماعية، ثم يضيف المعنى الديني الجديد الذي اكتسب أبعاداً احتجاجية وحداثوية تماسكا وصلابة، ويكون في مقدور الجماعات حشد المؤيدين والمحتجين والغاضبين.
يبدو الأمر منطقياً وقابلاً للحل والمعالجة أو التفكيك إذا ما بقي في بعده السياسي والاقتصادي وقابلاً للتسوية والتفاوض، ففي رد الخلافات والأزمات إلى أبعادها الاقتصادية والاجتماعية يمكن فهمها وتحليلها ثم بناء التفاهمات حول إدارتها والاتجاه بها نحو الممكنات والتوقعات الإيجابية، لكن في تحويلها إلى صراعات دينية وأيديولوجية عميقة تصبح عصية على الحلّ وتستمر في الاستنزاف والهدر للموارد والشعوب عقوداً بل قروناً طويلة، فالحروب الدينية في أوروبا، على سبيل المثال، استمرت أكثر من مائة سنة، وظلت بعد قرون من انتهائها تؤسس لمتوالية من الانقسام والحروب الأخرى التي لم تتوقف حتى منتصف القرن العشرين، بل واستمرت في بريطانيا والبلقان إلى تسعينيات القرن العشرين.
لماذا نذهب بعيداً ولا نواجه أنفسنا بحقيقة أنّ الصراع السنّي الشيعي الذي بدأ وتشكل حول رواية سياسية لا علاقة لها بالدين أو الإيمان والكفر، اكتسب قدرة على البقاء والحماس والدافعية مئات السنين، وما يزال هذا الانقسام العميق الذي تحول إلى أمم ومجتمعات ودول ومذاهب متفرقة يعادي بعضها بعضاً يكتسب مزيداً من الصلابة والتضحيات الكبيرة.
في المقابل فإنّ النزعات الأيديولوجية السياسية، وإن نجحت في بناء رواية للدول والجماعات والصراعات والحروب، فإنها ظلت عرضة للتفكك والانحسار؛ لأنها ببساطة لم تتحول إلى أيديولوجيا دينية تجتذب الدعاة والمتحمسين المتعطشين للعطاء والتضحية والموت.
إنّ الخلافات والانتخابات في أفقها العملي تشبه مباراة تحدد نتائجها أدوات وموارد وقدرات أطراف المباراة، وقوانين المباراة أيضاً، فإذا كانت مباراة بلا أفق واضح ولا قوانين وقواعد فإنها تتحول إلى هدف لذاتها أو تدمير للذات، هكذا يجب أن يكون في مقدور الجماعات والأحزاب والكتل المتنافسة أن تصوغ أهدافاً عملية واضحة لمشاركتها في التنافس وأن تكون هذه الأهداف قابلة للتفاوض والتسوية على نحو يرضي الأطراف، وعلى نحو يؤكد حاجة الأطراف جميعها إلى بعضها البعض، لكن المضي في هذا الخلاف إلى صراع وجودي (إسلامية أو غير إسلامية، تحرير أو خيانة مثلا) أو نحو اللانهاية أو الكراهية، أو المضي وراء تصور غير عملي أو واقعي للحسم الذي يلغي الآخر نهائياً؛ ذلك الخلاف إلى صراع يملك مورداً للاستمرار والتوقف، ولماذا يتوقف الخصم عن المواجهة حتى لو كان يخسر أو يتألم إذا كان يعلم أن خصمه يريد إلغاءه ولا يقبل به ولا يوافق عليه كما هو أو بتنازلات وتسويات معقولة وممكنة؟
ليس ثمة صراع مقدس، إنه يتحول بذلك إلى غاية مستقلة عن رواية الخلاف والصراع، ثم ويا للكارثة يتحول إلى متعة وأسلوب حياة ومصالح واستثمارات ويكون وقف الصراع تدميراً لمصالح وكيانات اجتماعية واقتصادية!
وبعبارة أخرى تتحول الجماعات الأيديولوجية إلى جماعات خارجة من المجتمعات وخارجة عليها، ثم تجد مصلحتها في هذا الخروج، وتحوله إلى حالة أبدية ودائمة ثم رواية وطقوس دينية ورمزية تتشكل حولها هويات ودول وقيادات وثقافة وقيم وعادات وتقاليد وطقوس ومدن ومجتمعات.
الإصلاح أهداف كبيرة ووسائل متاحة تبدو أقل بكثير من الأهداف. لكننا نحاول بلا أمل ولا ملل. أو كما قال امرؤ القيس انما نحاول أمرا أو نموت فنعذرا