* محادين: القانون قلص فرص حدوث الجلوة العشائرية؛ وطبيعة تطور المجتمع الأردني أضعفت مبررات وجود الجلوة
* ماضي: الوثيقة عززت الحضور الإيجابي للعشائر؛ ونجاحها شجع الحكومة على التفكير في إنهاء الجلوة العشائرية بشكل كامل
* المرازيق: الجلوة العشائرية تتعارض مع حقوق الإنسان ومعايير المحاكمات العادلة؛ والجهاز القضائي يتعامل مع القضايا بإنصاف وشفافية
نخبة بوست – أماني الخماش
تعد الجلوة العشائرية في الأردن من أبرز التقاليد العرفية التي ورثها المجتمع الأردني عبر العصور والتي تشكل جزءاً مهماً من التراث القبلي.
تتمثل الجلوة العشائرية في ترحيل أهل الجاني وأقاربه من الدرجة الأولى عن المنطقة التي وقعت فيها الجريمة كإجراء احترازي يهدف إلى تخفيف التوترات ومنع تصاعد العنف والانتقام.
ورغم أن هذه العادة تستمد جذورها من منظومة العرف العشائري التي سادت قديماً لضبط النزاعات وإرساء السلم الأهلي، إلا أن تطورات العصر وتغيرات المجتمع الأردني أثارت الكثير من التساؤلات حول مدى ملاءمة هذه الممارسة في ظل سيادة القانون والدولة الحديثة.
وبين الحين والآخر، يُثار الجدل حول ضرورة مراجعة هذه التقاليد وإعادة النظر فيها بما يتوافق مع قيم العدالة وحقوق الإنسان، وخاصة في ظل تأثيرها الكبير على الأفراد الأبرياء الذين يُرغَمون على مغادرة منازلهم ومناطقهم.
كما يفرض اتباع مسار الجلوة العشائرية على المجتمع أبعاداً متعددة أبرزها إجبار عشرات العائلات من طرف الجاني على الإجلاء لمنطقة أخرى، مما يعني تحملهم أعباء اقتصادية واجتماعية لا ذنب لهم بها، من خلال رحيلهم عن منازلهم وممتلكاتهم ومدارس أطفالهم وأماكن عملهم.
“العطوة”.. هدنة محدودة المدة
تتخلل فترة الجلوة العشائرية وترحيل ذوي الجاني مرحلة تُعرف بـ “العطوة”، وهي بمثابة هدنة تُمنح لأشخاص محددين من ذوي الجاني لمدة زمنية تتراوح بين ثلاثة أيام وقد تمتد إلى ثلاثة أشهر، وتهدف هذه الهدنة إلى تمكينهم من مغادرة مكان الجريمة دون أن يتعرضوا لأي اعتداء من قبل عائلة المجني عليه.
وثيقة ضبط الجلوة العشائرية
وفي خطوة تهدف إلى تقليل تأثير الجلوة العشائرية وتخفيف أعبائها على العشائر، إلى جانب تعزيز سيادة القانون، أقرت وزارة الداخلية عام 2021 وثيقة ضبط الجلوة العشائرية.
وفي تصريح إعلامي، وبعد مضي ثلاثة أعوام على إقرار الوثيقة، أوضح وزير الداخلية مازن الفراية أن الحكومة نجحت في إعادة 6 آلاف عائلة إلى أماكن إقامتهم التي تركوها بعد وقوع الجريمة.
ومع نجاح المرحلة الأولى من تطبيق الوثيقة، صرحت الحكومة بأنها تسعى إلى إلغاء الجلوة العشائرية بشكل كامل، ليصبح القانون هو الفيصل الوحيد، في إطار جهودها لحماية الأرواح وضمان أمن ذوي المجني عليه.
محادين: القانون قلص فرص حدوث الجلوة العشائرية
من جهته، أوضح الأكاديمي والخبير في علم الاجتماع والجريمة د. حسين محادين، أن الجلوة العشائرية تاريخيًا ارتبطت بعاملين أساسيين: أولهما غياب السلطة المركزية للدولة الناشئة، وثانيهما إبعاد الأطراف المتنازعة عن الاحتكاك. فقد كانت الجلوة بمثابة ضابط اجتماعي يسهم في الوقاية من تصاعد الجريمة وتنوعها، بالإضافة إلى التزام أدبي بين العشائر.
وأضاف محادين أن كل المجتمعات تعتمد على وسائل لتنظيم الضوابط الاجتماعية التي تحافظ على الضمير الجمعي، وفي الأردن، ساهمت الدولة في ترسيخ قيم القانون والضبط الاجتماعي من خلال أدوات مدنية، مع انتقال المجتمع من مفاهيم الريف والضوابط العرفية إلى قيم المدينة التي تستند إلى سلطة القانون.
وأشار محادين إلى أن التعليم وارتفاع الوعي لدى الأردنيين والاحتكام إلى صناديق الاقتراع، التي ساوت بين المواطنين في الحقوق والواجبات، أسهمت في إعادة النظر في مفاهيم الحياة. ومع ذلك، تبقى الجذور التاريخية للمجتمعات حاضرة في تفاصيل حياتهم اليومية.
ولفت محادين إلى أن المجتمع الأردني يمر بمرحلة تجاذب بين عشائرية النسب وعشائرية الدور، وهذه تعدّ إحدى سمات الانتقال من مجتمع الريف والبادية إلى القيم المدنية والقانون الإنساني العابر للحدود.
ماضي: وثيقة ضبط الجلوة العشائرية أعادت 85% من العائلات إلى منازلهم
في هذا السياق، أوضح عضو مجلس الأعيان الأسبق طلال ماضي أن وثيقة ضبط الجلوة العشائرية جاءت استجابة للرؤية الملكية، حيث أوعز جلالة الملك في عام 2016، بعد زيارته لمدينة المفرق، بأهمية إيجاد حلول للحد من الجلوة العشائرية، تبع ذلك عقد اجتماع ضم عددًا من شيوخ ووجهاء العشائر والأجهزة المعنية لإعداد وثيقة ضبط الجلوة العشائرية.
وأشار ماضي إلى أنه في عام 2021 أصدرت الحكومة هذه الوثيقة، والتي نصت على تنظيم الجلوة ضمن نطاق محدود ومعالجة القضايا العالقة قبل إصدار الوثيقة، بالإضافة إلى القضايا التي حدثت بعدها.
وأسهمت الوثيقة في إعادة ما نسبته 85% من العائلات التي تم ترحيلها خارج إطار الراحة المجتمعية قبل إصدار الوثيقة، بينما كانت نسبة الالتزام بتعليمات الوثيقة بعد إصدارها 100% .
وأضاف ماضي بقوله إن الوثيقة عززت الحضور الإيجابي للعشائر، حيث لم تعد العشائر والقانون طرفين متناقضين، بل أصبح التعاون بينهما في أعلى مستوياته، وأصبحت الوثيقة مرجعية يُستند إليها.
وأشار إلى أن الأردن يتمتع بأجهزة أمنية ذات كفاءة عالية قادرة على القبض على الجاني في وقت قياسي وباحترافية نادرة. حتى الآن، لا توجد أي قضايا قُيدت ضد مجهول، مما يعزز ثقة المواطنين بأن الجاني سينال عقابه. كما أن الجهاز القضائي قادر على التعامل مع القضايا بإنصاف وشفافية، مما يضمن أن يسود العدل، إذ يسعى القضاء لتحقيق الردعين الخاص والعام.
المرازيق: الجلوة العشائرية تتعارض مع حقوق الإنسان
وفي سياق متصل، أوضح المحامي والناشط الحقوقي عيسى المرازيق أن الجلوة العشائرية تتعارض مع بعض القوانين والحقوق الأساسية، أبرزها الحق في التنقل، وحق اختيار مكان الإقامة والسكن. كما تنتهك الجلوة بشكل مباشر حق الإنسان في مستوى معيشي معين، حيث تؤثر على حقه في العمل وتحرمه من بيته. بالإضافة إلى ذلك، تتعارض الجلوة مع معايير المحاكمات العادلة بشكل عام.
وأشار المرازيق إلى أن الجلوة العشائرية تتناقض مع عدد كبير من القوانين، أبرزها الدستور الأردني وقانون أصول المحاكمات الجزائية، بالإضافة إلى المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والميثاق العربي لحقوق الإنسان كوثيقة قانونية إقليمية.
وفيما يتعلق بوثيقة ضبط الجلوة العشائرية، أكد المرازيق أن الوثيقة أسهمت بشكل كبير في خفض نسبة الجلوة العشائرية، رغم أن هذا الإجراء لا يزال يُمارس ضمن إطار يحد من عدد العائلات التي تعرضت للجلوة أو فرضت عليها.
وبموجب القانون، يقع العقاب على الجاني فقط بصفته الشخصية، ولا يُعاقب آخرون بسبب علاقاتهم الأسرية أو القرابة بينهم وبين الجاني. ونظرًا لمكانة الأردن كدولة مؤسسات وقانون، من الضروري تقليص حضور هذا الإجراء، خصوصًا مع تطور المجتمع وصعوبة تطبيق الجلوة، لما لها من آثار مدمرة على أسر بأكملها.”
دولة القانون والمؤسسات ..
مع دخول الدولة الأردنية المئوية الثانية وفي ظل رفع شعار دولة القانون والمؤسسات، أصبحت هذه المعطيات والعوامل تتعارض بشكل مباشر مع عرف الجلوة العشائرية، مما دعا الكثيرون سواءً الحكومة أو وجهاء العشائر إلى المطالبة بضرورة الحد من استدامة الجلوة، لما لها من انعكاسات سلبية على الأفراد والمجتمع، والبحث في السبل التي تسهم في فرض طوق قانوني يستطيع ضبط مشهد الجريمة في الأردن.