* نحتاج إلى مواجهة أنفسنا بحقيقة أن سنوات الاحتلال لفلسطين حتى أواخر الثمانينات، كانت أفضل بكثير إلى درجة يصعب مقارنتها بحقبة الانتفاضات والسلطة الوطنية وحكومة حماس
* ما نزال في حاجة إلى اكتشاف ما هو مكتشف، وكما تأخرنا عدة قرون لنتحول إلى دولة حديثة، يبدو أننا في حاجة إلى مدة زمنية لنتحول إلى مدن ومجتمعات شبكية
* من غير التحرر من الوهم، فلن نكون قادرين على التصحيح أو وقف دوامة الفشل!
* كلما فكرتُ في متوالية الأحداث أجد أني مازلتُ واقفا في مكاني وزماني في تلك اللحظة وتلك القرية في الضفة الشرقية والتي صارت مهجورة مدمرة حتى اليوم
* تحولت البنادق والرشاشات إلى عمان بدلاً من القدس، فأنشأنا نزفاً وهدراً أسوأ من هزيمة حزيران، ثم مضينا إلى بيروت، فصارت المقاومة حربا أهلية نازفة أسوأ في كارثيتها ونتائجها من حزيران وأيلول!
* إلى أين مضى بنا “النضال” منذ أواخر الثمانينات؟ عُزلت الأجزاء الفلسطينية عن بعضها تماما، ثم فصلت فصلا سياسيا بل وشعوريا واجتماعيا، ولا نحتاج لنضحك على أنفسنا ونخفي أن الفلسطينيين اليوم في الداخل هم أربع مجموعات متباعدة في مصالحها وعلاقاتها وهمومها ومشاعرها
* هذه المأساة على ضخامتها، لا تقل كارثية عن محاولة تزيينها للناس وتقديمها على أنها نصر، إننا بذلك نضيع البوصلة ولا نعود نعرف ماذا نريد ولا كيف نحقق ما نريد، بل لم نعد نعرف من نحن؟
نخبة بوست – كتب: إبراهيم غرايبة
“وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ».” (يوحنا 8: 32)
ليس لدينا وقد انقضت الأحداث أو أوشكت على الانقضاء سوى أن نفكر في وجودنا ونعزز هذا الوجود ونرسخه ونحسنه، لا نملك سوى هذه الحقيقة ، ولا يحررنا سواها. لقد انقضت (ويا للهول) منذ 1967 سبع وخمسون سنة، ومازلنا في تلك اللحظة ذاهلين، كأننا جميعا ذلك الطفل (أني!) ابن الخمس سنوات الواقف على عتبة بيتهم المطلة جهة الغرب يراقب جموع النازحين والهاربين ويستمع إلى صوت أمه التي تدعو الله في لهفة لأخيها الجندي. كلما فكرت في متوالية الأحداث. أجد أني مازلت واقفا في مكاني وزماني في تلك اللحظة وتلك القرية في الضفة الشرقية والتي صارت مهجورة مدمرة حتى اليوم. كأننا جميعا ذلك الطفل الذاهل الذي لم يغادر تلك اللحظة، وإنها بالطبع لحظة تشكلنا حتى اليوم جميعا أمما وأفرادا ومجتمعات ومنظمات.
أقبلنا على الحرب والمقاومة في عناد متوهمين أن العناد فقط هو ما يعيد إلينا بلادنا المحتلة. ومازلنا ولسوء الحظ لم نفعل منذ تلك اللحظة سوى العناد، ولم نتوقف لحظة أخرى لنعيد تشكيل أنفسنا بالاتجاه المفترض للمراجعة والاستدراك.
لم يكن العناد والإصرار على مدى التاريخ والجغرافيا استراتيجية مستقلة بذاته، لم يكن في واقع الحال سوى مورد إضافي للعمل، لكنه ليس عملا بلمرة! تحولت البنادق والرشاشات إلى عمان بدلا من القدس، فأنشأنا نزفا وهدرا أسوأ من هزيمة حزيران، ثم مضينا إلى بيروت، فصارت المقاومة حربا أهلية نازفة أسوأ في كارثيتها ونتائجها من حزيران وأيلول!
السنوات الأربعين الماضية، توالت فيها التراجعات السياسية والمعيشية والثقافية، بل وتدهورت القضية الفلسطينية إلى أسوأ مرحلة في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية
ثم .. نحتاج إلى مواجهة أنفسنا بحقيقة أن سنوات الاحتلال لفلسطين حتى أواخر الثمانينات كانت أفضل بكثير إلى درجة يصعب مقارنتها بحقبة الانتفاضات والسلطة الوطنية وحكومة حماس، أفضل من جميع النواحي، الحضور الثقافي والسياسي للقضية الفلسطينية، والمستوى المعيشي والتعليمي والتنموي للفلسطينيين، وقدرتهم على العمل والسفر والمعيشة بأمن واستقرار، وأن السنوات الأربعين الماضية توالت فيها التراجعات السياسية والمعيشية والثقافية، بل وتدهورت القضية الفلسطينية إلى أسوأ مرحلة في تاريخها منذ الحرب العالمية الثانية.
بالطبع،فإن هذا الحديث ليس دفاعا عن الاحتلال الإسرائيلي، ولكنها محاولة للمراجعة والتوقف والتفكير ومحاولة لملاحظة سلسلة من التراكمات والحسابات والقراءات ومتواليتها التي ربما يلخصها بيت المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضر كوضع السيف في موضع الندى
صحيح أنه حدثت مبادرات وإنجازات مهمة وكبيرة أيضا، وساهمت في إبقاء القضية الفلسطينية فاعلة وحية، وقدمت للفلسطينيين قدرات كثيرة على التنمية والنضال، ولكننا في هذا المقام نحتاج إلى وقفة مع الأخطاء، والتمييز بين ما يمكن إصلاحه واستدراكه وما لا يمكن
كانت الحالة في منتصف الثمانينات مقارنة باليوم تبدو زاهية، وما نفاوض اليوم لأجله ونقاتل أيضا كان متحققا من دون هذه التضحيات والخسائر الهائلة
كانت فلسطين كلها متاحة للفلسطينيين للعمل والتنقل والتعبير والنضال بقدر كبير من الحرية والاستقرار، الجامعات والمدارس والجمعيات والصحف والنشر والعمل والرخاء الاقتصادي، وكان ثمة استعداد إسرائيلي للانسحاب من غزة و97% من الضفة الغربية، وكان الاستيطان أقل من اليوم بكثير، ولم يكن ثمة سور، يحيط بالضفة الغربية، ولا حصار ولا تجويع ولا إبادة ولا كراهية بهذا القدر.

فإلى أين مضى بنا “النضال” منذ أواخر الثمانينات؟ عزلت الأجزاء الفلسطينية عن بعضها تماما، ثم فصلت فصلا سياسيا بل وشعوريا واجتماعيا، ولا نحتاج لنضحك على أنفسنا ونخفي أن الفلسطينيين اليوم في الداخل هم أربع مجموعات متباعدة في مصالحها وعلاقاتها وهمومها ومشاعرها أيضا؛ فلسطينيو 1948، والقدس، والضفة، وغزة، وأنه تباعدت بينهم السبل المادية والجغرافية وفرص التعاون واللقاء، وأصبح الفلسطينيون في حالة غير مسبوقة من الانقسام والنزاع، وأما الفلسطينيون في الخارج، فلم يعودوا جزءا من القضية الفلسطينية إلا على نحو لا يزيد على دور ومشاركة الأردنيين والمصريين، وأتحدى أن ينفي كلامي هذا حتى قادة المقاومة والفصائل الفلسطينية وكتابها في الدوحة واستنبول وسائر أنحاء العالم.
وتراجعت مصادر الدخل الذاتية للفلسطينيين وأصبحوا يعتمدون على المعونات والحوالات، في حين أنهم كانوا الأفضل اقتصاديا وفي مستوى من الازدهار والتنمية لم يكن يفوقه سوى دول الخليج.
تحول الشعب الفلسطيني إلى شعب يعتمد على المعونة والصدقات والتبرعات، بل وأصبح النضال هو كيف يمكن إيصال المساعدات إليهم بعدما كانوا يساعدون الناس
كانت الانتفاضة الأولى تقديرا فلسطينيا بأنه لم يعد ثمة مجال سوى العودة إلى فلسطين، ولم يعد الخارج مركزا للمقاومة والعمل السياسي، وتبع ذلك إعلان الدولة الفلسطينية ثم اتفاق أوسلو وتشكيل السلطة الوطنية الفلسطينية، لكن المقاومة تجاهلت حقيقة أن ميزان القوى والعلاقات يحكمه قانون المنتصر والمهزوم، أو قانون العلاقة بين القوي والضعيف، كأننا نسينا العمل الصعب والممل في ظل الاحتلال، كانت مقاومة أقرب إلى اليأس الذي يفقد البوصلة والحذر والرغبة في الحياة! هذه المأساة على ضخامتها، لا تقل كارثية عن محاولة تزيينها للناس وتقديمها على أنها نصر، إننا بذلك نضيع البوصلة ولا نعود نعرف ماذا نريد ولا كيف نحقق ما نريد، بل لم نعد نعرف من نحن؟
تجاهلت المقاومة حقيقة أن ميزان القوى والعلاقات يحكمه قانون المنتصر والمهزوم، أو قانون العلاقة بين القوي والضعيف، كأننا نسينا العمل الصعب والممل في ظل الاحتلال، كانت مقاومة أقرب إلى اليأس الذي يفقد البوصلة والحذر والرغبة في الحياة!
اليوم تتشكل المدن والدول والمجتمعات في اتجاهات مختلفة جذرياً عمّا دأبت عليه لقرون عدة. اليوم تنهار المنظومة التي شكلت قصور الحكم وساحات المدن وأسوارها وجامعاتها ومدارسها واتصالاتها، تتحول إلى خرافة منتهية الصلاحية، لكن ما نزال في حاجة إلى اكتشاف ما هو مكتشف، وكما تأخرنا عدة قرون لنتحول إلى دولة حديثة، يبدو أننا في حاجة إلى مدة زمنية لنتحول إلى مدن ومجتمعات شبكية.
لا يمكن تجاوز ما أصبح عديم الجدوى والنفع في تنظيم الدول والمجتمعات، إلا باكتشاف الوهم الذي يحرك المجتمعات والدول، والمصالح والأفكار وأسلوب الحياة
ولشديد الأسف لا يمكن تجاوز ما أصبح عديم الجدوى والنفع في تنظيم الدول والمجتمعات، إلا باكتشاف الوهم الذي يحرك المجتمعات والدول، والمصالح والأفكار وأسلوب الحياة، والأسواق والسلع، والمواقف والفهم والسلوك الديني والفكري والتسويقي والتجاري. ثم أن نحاول تتبع المتوالية الناشئة عنه؛ من مناصب ومصالح، ونصب واحتيال، وهدر وخواء، وسياسات وتشريعات. ومن غير التحرر من هذا الوهم، فلن نكون قادرين على التصحيح أو وقف دوامة الفشل! ففي بناء المعرفة، نحتاج أن نعرف.
لا بدّ أنّها قاعدة متفق عليها، ويجب أن يصاحبها إجماع على أنّ حجب المعرفة هو بالضرورة خطة واعية للإقصاء والتهميش، وبطبيعة الحال حماية وصيانة الفشل؛ الأساليب والتقنيات العبقرية لصناعة الفشل وحمايته.
تحتاج النخب السياسية والاقتصادية المهيمنة اليوم أن تصدق أنّها في منافسة صعبة، وأنّها تواصل إدارتها للمؤسسات والموارد متظاهرة بأنّ شيئاً لم يحدث، وتبعث برسالة للأفراد والمجتمعات مفادها يجب أن تؤمنوا بما نقول، وأن تتظاهروا أنّكم لا تتظاهرون بالتصديق
صحيح أنّ الوهم والخرافة قادران على التأثير والتوجيه والعمل لأجل الغايات نفسها التي تعمل لأجلها الحقيقة. وليس بالضرورة أن تكون الأوهام سيئة في أهدافها وغاياتها، وليس بالضرورة أن تكون الحقيقة حسنة الأهداف والغايات. فالحقيقة والوهم مستمدان من مصدر منشئ واحد، هو الخيال، وكما قال ابن عربي: “لولا الخيال، لكنّا اليوم في عدم”.
وبالطبع، فإنّ الوهم والحقيقة مفيدان في اللحظة التي يؤديان فيها الغاية نفسها بالقدر نفسه، لكنّ الخرافة لا تستطيع الاستمرار في تقديم الفائدة المرجوة؛ إذ هي تعمل في شروط معينة يسعى الناس عادة للتخلص منها، وتقع الكارثة عندما يرتقي الإنسان في علمه ومعرفته، ويظلّ متمسكاً بخرافات كانت تفيده وهو أقلّ معرفة.