* يمكن النظر إلى زيارة الرئيس الإيراني بزشكيان إلى الدوحة، وهي كلها تدخل في إطار تدابير الأرض التي ستكون هي الأساس فيما ستؤول إليه الأوضاع بعد أن تصمت سماء المنطقة

* يبقى التأزيم هو سيد الموقف، في محاولة إسرائيلية لإدامة تبادل اللكمات دون أن تتساوى بالقوة والمقدار، في انتظار الضربة القاضية لصالحها

* نعلم أن ما يجري هو كجبل الثلج؛ ثلثه يُرى بالعين المجردة، أما الثلثان فغارقان في دهاليز السياسة والاتصالات والترتيبات والتدابير التي تتم بواسطة وسطاء مرئيين وغير مرئيين

* حراك وزير الخارجية الإيراني في بيروت، والذي جاء على قلق، وحزب الله في منعطف تاريخي خطر، يحاول بالكلام أن يبدد ولو قليلاً حالة الإحباط والنكوص التي يشعر بها الحزب وأتباعه تجاه إيران

نخبة بوست – كتب: هزاع البراري ( أمين عام وزارة الثقافة الأسبق)

يتبدى للعيان أن “خبر السماء” بين إيران وإسرائيل هو الأوضح والأكثر حضوراً في مسرح الصراع، وذلك من خلال تبادل الفعل ورد الفعل عبر المسيرات والصواريخ والهجمات بالطائرات، وحتى الهجمات السيبرانية باستخدام الأقمار الصناعية؛ فتبدو بذلك لغة السماء هي الأعلى سمعاً والأوضح بصراً، حتى امتلأت سماء المنطقة بالضجيج البصري وفوضى الوميض المختلط بين صاروخ مهاجم وصاروخ معترض، وبين إعلان تحقق الأهداف بنسبة عالية ونفي الأثر والتقليل من شأن الضرر.

لغة السماء هي الأعلى سمعاً والأوضح بصراً، حتى امتلأت سماء المنطقة بالضجيج البصري وفوضى الوميض المختلط بين صاروخ مهاجم وصاروخ معترض، وبين إعلان تحقق الأهداف بنسبة عالية ونفي الأثر والتقليل من شأن الضرر

لكن يبقى التأزيم هو سيد الموقف، في محاولة إسرائيلية لإدامة تبادل اللكمات دون أن تتساوى بالقوة والمقدار، في انتظار الضربة القاضية لصالحها، وهي الحصول على صفقة من طراز كبير تعيد من خلالها إسرائيل ترتيب أوراق المنطقة بشكل مغاير لما ترسخ عبر أكثر من ثلاثة عقود مضت.

البراري يكتب: إيران وإسرائيل بين خبر السماء وتدابير الأرض
هزاع البراري ( أمين عام وزارة الثقافة الأسبق)

نجد أن هذا الضجيج في سماء المنطقة، الذي تتشابك فيه خيوط متباينة القوة من إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن، يخطف الأذهان نحو مستجدات هذا الحراك الجوي وما هي فصوله الجديدة. ولكن يغيب عن اهتمامنا أن الفعل الحقيقي الأخطر والأعمق أثراً هو ما يتم تدبيره على الأرض. فعلى خلاف ما يبدو أن “خبر السماء” هو الواقع الذي تشهده المنطقة، وأن المعادلة مكشوفة تماماً، وأن لعبة “المكاسرة” واضحة ولا لبس فيها، فهذا يجافي الحقيقة. كل ما يجري في السماء هو محاولة مستميتة لتحسين تدابير الأرض لكل طرف.

على خلاف ما يبدو أن “خبر السماء” هو الواقع الذي تشهده المنطقة، وأن المعادلة مكشوفة تماماً، وأن لعبة “المكاسرة” واضحة ولا لبس فيها، فهذا يجافي الحقيقة. كل ما يجري في السماء هو محاولة مستميتة لتحسين تدابير الأرض لكل طرف

ولعل حراك وزير الخارجية الإيراني في بيروت، والذي جاء على قلق، وحزب الله في منعطف تاريخي خطر، يحاول بالكلام أن يبدد ولو قليلاً حالة الإحباط والنكوص التي يشعر بها الحزب وأتباعه تجاه إيران، التي شعروا بما يشبه اليقين أنها تتركهم في خضم دوائر الموت التي تفتك بقادة وكوادر الحزب، وتجعل من الضاحية، معقل الحزب البيروتي، ركاماً مرعباً، وكأنها تواجه ما واجهته غزة في كام كامل. لكن من الواضح أن الزيارة لم تحقق شيئاً يُذكر على الأرض، ولم تكن موضع ود من الحكومة اللبنانية.

وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي

وفي ذات السياق، يمكن النظر إلى زيارة الرئيس الإيراني بزشكيان إلى الدوحة، وهي كلها تدخل في إطار تدابير الأرض التي ستكون هي الأساس فيما ستؤول إليه الأوضاع بعد أن تصمت سماء المنطقة.

نعلم أن ما يجري هو كجبل الثلج: ثلثه يُرى بالعين المجردة، أما الثلثان فغارقان في دهاليز السياسة والاتصالات والترتيبات والتدابير التي تتم بواسطة وسطاء مرئيين وغير مرئيين. وأن التدابير الأرضية التي تدار في الخفاء هي التي ستكون أكثر ديمومة، وليس ما نرصده من السماء ومن جبهات متعددة

فإيران وإسرائيل، وكلاهما خبير بالآخر بحكم طول فترة الصراع، يحاولان كسب نقاط إضافية لتحقيق أفضلية فيما يتم ترتيبه والاتفاق عليه في النهاية. لذا، نلمس أن إيران تذهب إلى الرد مرغمة وخجلة ومتأنية، وتكاد، وهي ترد، أن تصوغ جمل الاعتذار والتوضيح، وتتبع الرد المتدرج من حيث النوعية والمقدار والدقة. وهو بذلك رد يهدف إلى إيصال رسائل أكثر من كونه رداً عسكرياً رادعاً هدفه تدمير قدرات إسرائيل وإلحاق أكبر الأذى بها. فهو يندرج في محاولة التنبيه والتحذير أكثر من الإيذاء والتدمير، بالإضافة إلى الحاجة الماسة إلى رفع معنويات الحلفاء ومواجهة الرأي العام في المنطقة الذي بدأ يدير ظهره لإيران بعد مجزرة حزب الله.

إسرائيل تعي ذلك، وترغب في تحقيق أعلى الدرجات في هذا النزال، ليكون لها اليد الطولى في إعادة ترتيب المنطقة، من خلال إجبار إيران على كف يدها عن ما يسمى “محور المقاومة”، وبالتالي تصاب هذه المحاور بالموت الإكلينيكي والضمور العسكري والتلاشي السياسي. مما يعيد ترتيب الأوراق في سوريا، ويجعل لبنان يستعيد خطه الوطني، ويلتئم في برلمان ينجح في انتخاب رئيس للبلاد، وبالتالي تشكيل حكومة جديدة ذات سيادة وقرار لبناني وطني.

وكذلك إنهاء خطر حماس في إطار الإجهاز الأخير على حل الدولتين، وإخراج الحوثيين من المعادلة العسكرية في اليمن، وتأمين أهم المعابر المائية في العالم الممتدة من بحر العرب ومضيق باب المندب وصولاً إلى قناة السويس. وهي بذلك – أي إسرائيل – تعي أن إدامة حزب الله وحده من الناحية الاقتصادية باهظة الكلفة، ممثلة في مرتبات المقاتلين وما يتحصلون عليه من ميزات إضافية، وتأمين الوظائف وفرص العمل للبيئة الحاضنة، وإقامة المستشفيات والمراكز الطبية والإنفاق عليها، والمدارس والمؤسسات الخيرية والمجتمع المدني، وإعالة أسر الشهداء والمصابين، بالإضافة إلى التدريب والتسليح، والكلف الأمنية والاستخبارية، وغيرها الكثير. ناهيك عن الكلف السياسية والعسكرية الضخمة. هذا مثال واحد من بين هذه الفصائل.

كل هذه القوى الحليفة تضع إيران في حالة نزف اقتصادي وسياسي كبيرين، وهو ما يجعلها أكثر عزلة عالمياً، وأكثر وقوعاً تحت طائلة العقوبات المتزايدة. وإسرائيل ترى أن كل هذا يندرج في المعركة الاستنزافية التي بلا شك أضعفت إيران وأنهكتها على أكثر من صعيد

الواقع يقول إن إسرائيل تغيرت، وأنها في إطار فرصة ذهبية لاقتناص جملة أهداف على رأسها إيران، مستغلة ضعف الموقف الأمريكي مع اشتداد المعركة الانتخابية فيها، وتخلي إسرائيل عن سياسة الأخذ برأي واشنطن إلى سياسة “اضرب أولاً وبلغ ثانياً”. وهو ما أضعف التأثير الأمريكي، الذي بدا وكأنه متفرج ومشارك بتصريحات خجولة ولا معنى لها يطلقها بايدن هنا وهناك.

فإسرائيل متيقنة من حتمية الدعم الأمريكي، لكن نتنياهو يعي أن الفرصة المتاحة حالياً من الصعب أن تتكرر. وقد تجاوز، في ظني، مشكلة إنقاذ حكومته إلى محاولة إنقاذ إسرائيل نفسها من خلال إعادة تأكيد هيمنتها بالفتك بالمقاومة، وتصفية نفوذ إيران، والتخلص نهائياً من كل التزامات أوسلو وما تلاها من اتفاقيات وتفاهمات. مما يجعل المستقبل، في ظل هذه التدابير الأرضية، قاتماً وشديد الوطأة على المنطقة برمتها.

نتنياهو وبايدن خلال لقاء في تل أبيب بأكتوبر الماضي (رويترز)

إسرائيل متيقنة من حتمية الدعم الأمريكي، لكن نتنياهو يعي أن الفرصة المتاحة حالياً من الصعب أن تتكرر؛ وقد تجاوز، في ظني، مشكلة إنقاذ حكومته إلى محاولة إنقاذ إسرائيل نفسها من خلال إعادة تأكيد هيمنتها بالفتك بالمقاومة، وتصفية نفوذ إيران

إن ضرب قلب حزب الله المنكشف تماماً لإسرائيل، وقطع خطوط إمداده، وتقطيع سلاسل قيادته، وتدمير ترسانته الصاروخية، وخوض مواجهات برية خاطفة، بشكل مغاير للمتوقع، وضرب الحوثيين في الحديدة وصنعاء وغيرها، وما تتعرض له بعض المواقع في سوريا، كلها تصب في محاولة إسرائيل تشكيل التدابير الأرضية التي تُحاك عبر خطوط اتصال غير مباشرة وربما مباشرة أحياناً، لصالحها بما هو معلن وليس بخفي. وهو ما صرح به نتنياهو بإعادة تشكيل المنطقة بما يكفل بقاء إسرائيل القوة الغاشمة دون ردع عسكري مهما كان شكل هذا الردع أو قوته. نعم، إنها التدابير الأرضية التي نخشاها أكثر من “خبر السماء” الذي نرقبه.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version