نخبة بوست – بقلم : عمرو حمزاوي
لن تضع الحرب الراهنة في الشرق الأوسط أوزارها قريبا، بل هي مرشحة للاستمرار بتمادي إسرائيل في اعتداءاتها على غزة والضفة العربية ولبنان وسوريا، وبلعبة “التصعيد المحسوب” بين إسرائيل وإيران التي تجر معها الميليشيات الشيعية المسلحة في العراق واليمن.
الشرق الأوسط اليوم، وفي رقعة واسعة منه، هو مسرح للتغول العسكري الإسرائيلي الذي يغامر بمواجهات متعددة في مواقع قريبة منه وبعيدة عنه، ويرتكب جرائم ضد الإنسانية بحثا عن قضاء مبرم وآني على حركة حماس وحزب الله وأذرع إيران في سوريا والعراق واليمن، وبحثا عن قضاء مبرم آخر بعيد المدى على مبدأ “حل الدولتين” الذي تستند إليه كافة الاتفاقيات الموقعة بضمانات دولية وعربية بين إسرائيل وفلسطين ومن ثم الإلغاء الكامل لحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة، وبحثا عن تغيير بعيد المدى في موازين القوة بين إسرائيل وإيران من خلال الضغط العسكري من الأولى على الثانية لتجميد المشروع النووي للجمهورية الإسلامية والحد من قدراتها العسكرية وتقليص نفوذها الإقليمي بتجريدها من الحركات والأحزاب والميليشيات العسكرية المتحالفة معها.
الشرق الأوسط اليوم، وفي رقعة واسعة منه، هو مسرح لردود أفعال عسكرية من قبل حماس وحزب الله وميليشيات أخرى تستهدف كبح جماح الاعتداءات الإسرائيلية، وكذلك لردود أفعال عسكرية محدودة من قبل إيران التي لم ترد التورط في حرب الشرق الأوسط وعولت على اضطلاع حماس وحزب الله بالتصدي لإسرائيل وإبعادها عن الهجوم المباشر على الأراضي والمنشآت الإيرانية وواصلت التمسك بالتصعيد المحدود حتى حين غيرت تل أبيب من قواعد الاشتباك بضغط كاسح في فلسطين ولبنان وباغتيالات متتالية لقيادات حماس وحزب الله وميليشيات أخرى في غزة والضفة الغربية وبيروت ودمشق وطهران.
تحاول إيران “إنقاذ ما يمكن إنقاذه” من القدرات العسكرية والتنظيمية لحلفائها في الشرق الأوسط، ومن ثم من شبكة نفوذها الإقليمي التي حاكت خيوطها على مدار عقود عديدة وبهدف استراتيجي رئيس وهو إبعاد عدوتيها، إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية، عن تهديد مكونات أمنها المتمثلة في بقاء نظام الجمهورية الإسلامية والدفاع عن قدراتها النووية والعسكرية المتطورة وردع التهديدات الإقليمية، تحاول إيران تحقيق ذلك دون أن تتورط مباشرة في الحرب ودون أن تتخلى عن “التصعيد المحسوب” ضد إسرائيل.
دون تجاهل للكلفة الإنسانية والمادية الباهظة التي تفرضها الحرب على الشعبين الفلسطيني واللبناني وللثمن السياسي الفادح الذي يتحمله حق تقرير المصير فلسطينيا وتتحمله سيادة الدولة لبنانيا، تواجه الحرب، ومعها الصراع الممتد على رقعة واسعة في الشرق الأوسط بين إسرائيل وإيران، الدولتين العربيتين المجاورتين للأراضي الفلسطينية في غزة والضفة الغربية، مصر والأردن، بتهديدات حقيقية لأمنهما القومي ولدورهما الإقليمي المستند إلى السلام كخيار استراتيجي في شرق أوسط مضطرب وإلى الحوار والدبلوماسية والتفاوض كسبل وحيدة لإنهاء الحروب والصراعات وصناعة الأمن والاستقرار.
يتمثل التهديد الأول للأمن القومي لمصر والأردن في خطر التهجير القسري للشعب الفلسطيني من غزة والضفة الغربية والذي، وإن لم يعد هدفا علنيا لحكومة اليمين المتطرف التي يقودها في تل أبيب بنيامين نتنياهو والتي تحدث بعض أطرافها في الأسابيع الأولى للحرب على قطاع غزة عن سيناريوهات للتهجير القسري، يظل أمرا لا تمانع إسرائيل في حدوثه بجعل القطاع المدمر منطقة غير صالحة للحياة ودفع أكثر من مليوني فلسطيني إلى خارجه باتجاه الحدود المصرية، وبتواتر طرح أحزاب اليمين المتطرف لمسألة “الوطن الفلسطيني البديل”والمقصود بها إلغاء وجود الأردن كدولة عربية ذات هوية وطنية خاصة وتحويله إلى أرض للمهجرين سابقا من كل أرجاء فلسطين ولاحقا من الضفة الغربية.
تنبهت القاهرة وعمان سريعا لخطر التهجير القسري، وحشدت الدبلوماسية المصرية والأردنية دعما إقليميا ودوليا متعدد الأطراف لرفضه، وأجبرت حكومة نتنياهو على الابتعاد العلني عن سيناريوهات التهجير. غير أن الدولتين عليهما مواصلة العمل المشترك لمواجهة الكارثة الإنسانية التي ألحقتها إسرائيل بغزة، وللضغط إقليميا ودوليا للتوصل إلى إيقاف الحرب في القطاع وإلى الحد من عنف المستوطنين في الضفة الغربية، وللحيلولة دون أن تصبح الأراضي الفلسطينية المحتلة بيئات طاردة لسكانها بسبب غياب مقومات الوجود الآمن.
أما التهديد الثاني الوارد على الأمن القومي لمصر والأردن بفعل الحرب في الشرق الأوسط فيرتبط بحقيقة أن إسرائيل التي ترتبط معها الدولتان بمعاهدات سلام (معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في ١٩٧٩ ومعاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية في ١٩٩٤) وبعلاقات دبلوماسية لم تعد شريكا لا للسلام الإقليمي ولا لدبلوماسية إنهاء الحروب وتسوية الصراعات.
بل أن إسرائيل خاطرت بجرائمها في غزة، وبتعنتها فيما خص إدخال المساعدات الإنسانية لسكان لا يجدون ومنذ أكتوبر ٢٠٢٣ المتطلبات الأساسية للحياة، وبتحايلها على الخطوط الحمراء المصرية فيما خص وضعية ممر فيلادلفي كمنطقة منزوعة السلاح وضرورة أن تكون إدارة معبر رفح في الجهة الفلسطينية للفلسطينيين؛ خاطرت إسرائيل بتعريض السلام بينها وبين مصر لأزمة شاملة. وكذلك فعلت تجاه الأردن بعنف المستوطنين المتصاعد في الضفة الغربية وبالعمليات العسكرية المتكررة في مدنها، وبعدم تجميد النشاط الاستيطاني في الضفة والقدس، وبتواتر تصريحات رسميين إسرائيليين عن الوطن البديل.
وبالقطع، رتب رفض حكومة نتنياهو لإيقاف الحرب في غزة والاعتداءات في الضفة وتورطه المتعمد في توسيع نطاقات العنف والدمار في الشرق الأوسط بالحرب على حزب الله في لبنان، رتب الأمران المزيد من التأزم في العلاقات بين تل أبيب وبين القاهرة وعمان.
تعلن حكومة اليمين المتطرف في إسرائيل تنصلها الكامل من مبدأ حل الدولتين كأساس للسلام في الشرق الأوسط، وتلغي من ثم عملا سابق تعهدات الدولة العبرية فيما خص إقامة الدولة الفلسطينية. وهي بذلك تدحض المرتكز الأهم لموقف مصر والأردن المتمثل في اعتماد السلام كخيار استراتيجي لانتزاع حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير والدولة المستقلة بجوار إسرائيل. انقلاب نتنياهو وحكومته على السلام مع الفلسطينيين وعلى حل الدولتين، وهو توجه تؤيده أغلبية تقترب من ٦٠ بالمائة بين الإسرائيليين، يعني استحالة أن تكون الدولة العبرية شريكا لمصر والأردن في صناعة السلام وبناء الأمن والاستقرار الإقليميين طالما استمر “خيار نتنياهو” هو الخيار المعتمد هناك.
ويستدعي ذلك من الدولتين العربيتين التعامل مع القضية الفلسطينية ومع مجمل المشهد الإقليمي في جوارهما المباشر (فلسطين ولبنان وسوريا) انطلاقا من غياب شريك السلام الإسرائيلي ومن حتمية مواصلة القاهرة وعمان لحهودهما الحثيثة في صناعة السلام وبناء الأمن والاستقرار وإيقاف الحروب والصراعات المشتعلة دون وجود حكومة في تل أبيب تدفع في ذات الاتجاهات.
ثم نأتي إلى تهديد ثالث وخطير يرد على الأمن القومي لمصر والأردن وفي لحظة تتعرض يها الدولتان لتهديدات من كافة جهات حدودهما الأخرى (مصر جنوبا بسبب الحرب الأهلية في السودان وبسبب التوترات عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر وفي القرن الإفريقي ومع إثيوبيا بسبب ملفات المياه والأمن وغربا بسبب الصراعات الأهلية المستمرة في ليبيا، والأردن شمالا بسبب عمليات التهريب الواسعة القادمة من سوريا والتدهور البالغ للأوضاع الأمنية هناك وشرقا بسبب توظيف الميليشيات الشيعية للأراضي العراقية في لعبة التصعيد المحسوب بين إسرائيل وإيران)، وهو التهديد المرتبط بانزلاق عموم المشهد الإقليمي إلى الحروب والصراعات المسلحة والمغامرات العسكرية وما تدفع إليه من مخاطر جمة مرتبطة بامتداد العنف والدمار على رقعة واسعة وانتشار سباقات التسلح وتصاعد مناسيب الأفعال وردود الأفعال العسكرية بين إسرائيل وإيران وربما دخولها في طور الالغاء الكلي المتبادل.
مشهد إقليمي كهذا، وهو يتبلور في لحظة لم تتعاف فيها منطقة الشرق الأوسط بعد من الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي عانت منها طوال العقد الماضي (والخليج العربي هو الاستثناء الوحيد)، يضغط بشدة على مصر والأردن كدولتين تعتمدان السلام والحوار والدبلوماسية والتفاوض كسبل وحيدة لممارسة الفعل الخارجي الرشيد في جوارها المباشر وجوارها الممتد. فالقاهرة وعمان تختلفان مع مجمل الأفعال الإسرائيلية الراهنة وتعارضان إلغاء حل الدولتين.
والعاصمتان تختلفان مع مجمل الأفعال الإيرانية في الشرق الأوسط الذي توظفه طهران كخط دفاع أول عن أمنها القومي هي وتستبيح من أجله الدول الوطنية في لبنان وسوريا والعراق واليمن وتزج في سياقه بالفصائل الفلسطينية إلى خيارات مستحيله عادت هي (طهران) وانسحبت منها. والدولتان تنظران بقلق بالغ، وفي لحظة تهديدات عديدة أخرى يتعرض لها أمنهما القومي، إلى التغول العسكري لتل أبيب ومغامراتها ومغامرات إيران بالسلاح. ولا ينبع القلق من رفض مصر والأردن الذهاب باتجاه سباق تسلح غير محسوب، بل أيضا لتعارض عسكرة المشهد الإقليمي مع السلام كخيارهما الاستراتيجي.
هذه لحظة للتنسيق الشامل بين القاهرة وعمان، فالرؤية واحدة والمصالح متشابكة والتهديدات والأخطار نتعرض لها سويا.