نخبة بوست – كتب: هزاع البراري ( كاتب ومحلل سياسي)

إن حالة عدم الاستقرار والصراع الطائفي بمستوياته وأشكاله المختلفة، ليست وليدة المرحلة الحالية بل هي قديمة إذ ظهرت للعلن إبان الحرب الأهلية الأولى عام 1841 التي استمرت معاركها حتى عام 1861، عندما اندلعت الحرب الطاحنة بين الدروز والموارنة في أعقاب حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام، واصطفاف الموارنة إلى جانب الحملة المصرية، في حين ناصر الدروز الدولة العثمانية.

البراري يكتب: المسألة اللبنانية والغياب العربي
الكاتب والمحلل السياسي هزاع البراري

ولعل هذه الحرب التي امتدت طوال عشرين عامًا بين مد وجزر، هي أحد الجذور العميقة للمسألة اللبنانية التي تتجاوز بذلك ما يسمى بالحالة اللبنانية أو الظاهرة التي ترسخت في الذاكرة وامتدت فوق ملامح جميع الأحداث السياسية والاجتماعية منذ الحرب الأهلية التي انطلقت شرارتها عام 1974، واستمرت ألسنة نيرانها تلتهم الإنسان والشجر والحجر قرابة الثلاثين عامًا. فهي أبعد من ذلك تاريخيًا وأكثر عمقًا ورسوخًا مما يبدو من كونها حالة استعصاء سياسي، أو مجرد فراغ مناصب سيادية لعدم توفر القدر الكافي من التوافق الطائفي والسياسي في بعده الوطني.

إذن هي مسألة جذرية ذات جذور ضاربة في البعيد، تتجاوز امتداداتها الفضاء الوطني أو الإقليمي لتصل إلى الفضاء العالمي بتصادم مصالح دول كبرى مثل فرنسا وبريطانيا وروسيا وليس آخرها أمريكا وإيران.

لقد حاولت الدول الاستعمارية مبكرًا الدخول إلى جسد الدولة العثمانية وقلب بلاد الشام – لبنان – من خلال تأجيج الصراع الطائفي، وخلق ولاءات دولية متنافرة لكل طائفة، جاءت نتيجة الحاجة الملحة إلى الحماية والدعم. فأصبحت هذه الطوائف، دون أن تخطط لذلك، مناطق نفوذ دولية، وأذرع لهذه الدول الطامعة في التركة العثمانية بحجة حماية هذه الطوائف من بعضها البعض، واتهام الدولة العثمانية بالتقصير والانحياز.

وجد لبنان نفسه في خضم صراع دولي مستعر، ينعكس في نيران بنادق أبنائه من مختلف الطوائف؛ وقد استخدمت فرنسا هذه الورقة ذاتها عندما عملت على فصل لبنان عن حكومة دمشق العربية تحت قيادة الملك فيصل، بحجة ما يتعرض له الموارنة من اعتداءات

إذن هي حالة عابرة للحقب والمراحل، وعمل الغرب على تكريسها منذ أواخر أيام الدولة العثمانية، واستخدمت حجة في التقسيمات السياسية حتى ما بعد سايكس بيكو، وما زالت هذه الورقة/المسألة تُستثمر لإضعاف لبنان وبالتالي نشر حالة عدم الاستقرار في الإقليم. وما نشهده اليوم ما هو إلا إحدى تجليات هذا الواقع وامتداداته.

لم يكن للحرب الأهلية الطاحنة التي اندلعت عام 1974 أن تتوقف بعد قرابة ثلاثين عامًا مدمرة، رغم حجم التدخلات الأجنبية المباشرة وعلى رأسها الأمريكية التي تعرضت لخسائر عسكرية وتفجير سفارتها بما أضر بهيبة الدولة العظمى

لم يكن لهذه الحرب أن تتوقف لولا الجهود العربية التي بُذلت من خلال جامعة الدول العربية التي كانت أفضل حالًا وأكثر فعالية مما هي عليه الآن، وجهود رؤساء عدد من الدول العربية وعلى رأسهم الملك فهد بن عبد العزيز ملك السعودية، الذي بذل جهودًا استثنائية وأسفرت في نهاية المخاض العسير عن توقيع اتفاق الطائف الشهير من خلال تقاسم السلطة.

رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري

أسهم اتفاق الطائف بشكل مباشر في إيقاف الحرب، والانخراط في مرحلة إعادة الإعمار والتعافي، والتي كان مهندسها سياسيًا واقتصاديًا الرئيس رفيق الحريري، وكان للدعم السعودي والخليجي دور في دخول لبنان حالة التعافي

وبقي لبنان ينعم باستقرار نسبي حتى اغتيال الحريري عام 2005، حيث بدأت بوادر الاستعصاء السياسي وتراجع الحالة التوافقية نتيجة عودة عدد من الطوائف إلى حالة الشد الإقليمية، التي جعلت من لبنان من جديد ساحة مواجهة بين هذه الأقطاب الإقليمية. ولعل حزب الله وأحلافه في العقدين الأخيرين رأس الحربة في هذه الاستقطابات الإقليمية.

لقد كشفت حالة التردي الكبيرة في المسألة اللبنانية في سنواتها الأخيرة على الصعيدين السياسي والإداري والعسكري، عن وضع داخلي عام يضع الدولة اللبنانية على حافة الفشل التام. كما أن التدخلات الإيرانية المباشرة، ومحاولتها من خلال حلفائها الهيمنة على القرار اللبناني ومصادرته، ومحاولة تحويل لبنان إلى محمية إيرانية تأتمر بأمرها، دفعت بالجانب العربي وعلى رأسه الدور السعودي إلى الانكفاء والتراجع عن مواصلة دعم التيار المعتدل، وخاصة تيار 14 آذار، الذي يُعد من أبرز قادته سعد الحريري – زعيم تيار المستقبل.

التدخلات الإيرانية المباشرة، ومحاولتها من خلال حلفائها الهيمنة على القرار اللبناني ومصادرته، ومحاولة تحويل لبنان إلى محمية إيرانية تأتمر بأمرها، دفعت بالجانب العربي وعلى رأسه الدور السعودي إلى الانكفاء والتراجع عن مواصلة دعم التيار المعتدل

وقد أسهم هذا التيار في خروج القوات السورية من لبنان، لكن تفاقم الأزمة بعد ذلك، ومواصلة إيران من خلال أذرعها إضعاف التيارات المعتدلة وذات التوجهات الوطنية والعربية، والانقسامات داخل تيار 14 آذار، مع بروز ما يسمى بالثلث المعطل في البرلمان والحكومة، أصاب الدولة بالشلل والجمود في جميع مفاصلها.

ومع تردي الحالة السياسية الداخلية والتراجع الأمني، تراجع الدعم العربي، بل نكاد نقول إن الحالة العربية الداعمة والضامنة لاستقرار لبنان ممثلة بالسعودية وعدد من الدول العربية وكذلك جامعة الدول العربية، في ظل هذا الواقع المفروض على لبنان، لم تعد موجودة. وهو غياب قسري بعد أن فقدت هذه الجهود جدواها وتأثيرها، بل تم مجابهتها والعمل ضدها بشكل علني.

إن الغياب العربي عن المسألة اللبنانية، رغم مبرراته الظرفية، إلا أنه ترك لبنان فريسة لأذرع إيران تأخذ البلاد إلى حيث تريد وقد صادرت قراره في الحرب والسلم وفي اختيار الرؤساء الثلاثة، وغيرها من التفاصيل ذات الأثر الاقتصادي والاجتماعي

لذا فلن يخرج لبنان من أزمته المزمنة إلا من خلال عودة عربية قوية إلى ساحته، عن طريق تطوير مبادرة عربية جديدة، تأخذ في بنيتها كل الدروس المستفادة مما سبق. ولا بد من اتفاق جديد يتكئ على اتفاق الطائف، وليكن “الطائف 2″، يُعاد من خلاله بناء منظومة لبنان الجديد سياسيًا واجتماعيًا وإداريًا، وأن تعود بفضله الدولة لأهلها اللبنانيين، وأن يكون الجيش اللبناني هو بؤرة الدولة الوطنية اللبنانية، وهو لبنان جامع مانع لا يستثني أحدًا، ولا يسمح لأحد بفرض ولاءاته عليه.

فلبنان اليوم بحاجة ماسة إلى أفقه العربي وامتداده القومي، وألا يُترك هكذا، فقد أضعف الغياب العربي قادة الوطنيين المعتدلين، فتمدد آخرون مغرضون خدمة لأجندات غير وطنية. لا بد من مبادرة عربية عربية تقود لبنان والمنطقة إلى بر الأمان، فالوقت ليس في صالح لبنان والعرب.


اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version