* الأفكار المجردة في طبيعتها وعمقها وغموضها؛ يصعب فهمها وتمثّلها من غير أن تحلّ في رموز ورسائل وطقوس وهياكل أو تحلّ في أعمال فنية وأدبية

* ما جرى في الجماعات أن الرمز تحول إلى اتجاهين خطيرين يعملان ضد الدين نفسه

* الأخطر، أن الرمز تحول إلى رواية مستقلة وأصبح أصلاً قائما بذاته، فأصبحت الأعمال والانتماءات والوظائف والتنظيمات والقواعد واللوائح؛ ديناً مستقلا أو مختلفا، أو أصبحت هي الدين

نخبة بوست – كتب: إبراهيم غرايبة

مؤكد بالطبع أن الجماعات الدينية بكل اتجاهاتها ومحتوياتها كما الممارسات الجماعية للدين تمنح للمشاركين فيها شعورا إيجابيا من الطمأنينة والتضامن والتماسك ومعان أخرى إيجابية مثل الانتماء والمشاركة، .. لكن ذلك كله ليس دليلا على الصواب الديني أو أنه أمر نزل من السماء، أو أنه مطلب ديني، وهو أمر بالمناسبة لا يميز دينا معينا، بل إن الظواهر والنتائج نفسها متطابقة في كل الأديان والمذاهب، لأنها في واقع الحال تستمد تأثيرها من الجماعة (أي جماعة كانت) وليست من الدين نفسه أو من الصواب، وحتى جماعات وشلل المراهقين والمدمنين والأشقياء تمنح لأعضائها مشاعر قوية بالانتماء والتماسك والتضحية والسعادة!

حتى جماعات وشلل المراهقين والمدمنين والأشقياء تمنح لأعضائها مشاعر قوية بالانتماء والتماسك والتضحية والسعادة!


وبالطبع فإن الانتماء والمشاركة أمر ضروري وجميل، ويشكل مكونا رئيسيا في الأمم والمجتمعات، وهدفا أساسيا لكل فرد، فالوحدة مؤذية إن كان أحد يستطيع أن يستغني عن الجماعة، ولكن ذلك يجب النظر إليه بما هو اجتماع إنساني، يتضمن كثيرا من التجارب والضرورات والمكتسبات؛ كما الأخطاء والمحاذير والمخاسر، ولا يجوز أن يقدم على أنه دين من عند الله، أو متطلب ديني، أو أنه يمنح أصحابه ميزة أو أفضلية دينية، أو يقرب أحدا من الله، بل إنها صيغ ورموز وأفعال يمكن أن تتحول إلى أصنام وأوثان ما أنزل الله بها من سلطان، وينطبق عليها قوله تعالى “ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى”.

الغرايبة يكتب: الجماعة الدينية تمنح أعضاءها شعوراً إيجابياً ولكن ذلك ليس ديناً


إن الأفكار المجردة في طبيعتها وعمقها وغموضها أيضا يصعب فهمها وتمثلها من غير أن تحلّ في رموز ورسائل وطقوس وهياكل، أو تحلّ في أعمال فنية وأدبية مثل الموسيقى والتراتيل والنشيد والقصّ والمسرح والسينما والدراما أو تعالج في منظومات المعرفة وإدراك الحقائق، فيعاد فهمها وإنتاجها في الفلسفة والشرح والتفسير واللغة والعلوم والتشريع والاجتماع والسياسة، ..

وكل ذلك جميل وضروري (غالبا) إنما ليس هو دينا نزل من السماء، بل هو أدوات ورموز تأخذ حضورها وأهميتها من مدى الحاجة إليها، وتتغير وتتبدل ويعاد النظر فيها استنادا إلى الأصل في الدين والإيمان، وإلى روايتها المنشئة. لكن ما جرى في الجماعات أن الرمز تحول إلى اتجاهين خطيرين يعملان ضد الدين نفسه المنبثقان عنه أو المنتسبان إليه؛ أحدهما أن الرمز (وهو هنا الجماعات) تحول إلى صورة مشوهة وغير حقيقية عن الأصل، ولم يعد يعكس الأصل (الدين) ولا يقدم فهما أو تطبيقا صحيحا للدين، وصار ينطبق عليه قوله تعالى “إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان” والثاني أشد خطورة وفظاعة؛ وهو أن الرمز تحول إلى رواية مستقلة وأصبح أصلا قائما بذاته، فأصبحت الأعمال والانتماءات والوظائف والتنظيمات والقواعد واللوائح والتشكيلات والمؤسسات والقيادة والعضوية؛ أصبحت دينا مستقلا أو مختلفا، أو أصبحت هي الدين، أو يحسبها أهلها هي الدين.

بل وتتجه إليها معاني وإشارات النصوص الدينية الأصلية، فعلى سبيل المثال تفسر آية “أولي الأمر منكم” بأنها قادة الجماعة، ولا يقبل أحد من الجماعات الاحتجاج بالآية لأجل طاعة الحكومات والمؤسسات الرسمية، لكنها تستخدم كل يوم على نحو متكرر ومتواصل وراسخ لأجل شرعية الطاعة للجماعة وقادتها وأمرائها وتعليماتها ولوائحها ومقولاتها وأفكارها ومواقفها السياسية، كل ذلك يصير أمرا يجب اتباعه وطاعته، وتكون مخالفته مخالفة للدين، ويكون الانتماء إلى الجماعة أمرا دينيا، ولا يجوز الخروج منها، أو يكون الخروج منها مخالفة للدين.

كان يقال في جماعة الإخوان المسلمين إنه لا يجوز ترك الجماعة إلا لأسباب ثلاثة ذكرها الحديث النبوي “شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه”

وكان يقال في جماعة الإخوان المسلمين في كل مناسبة وبغير مناسبة مما هو مقترح في كتب سعيد حوى إنه لا يجوز ترك الجماعة إلا لأسباب ثلاثة ذكرها الحديث النبوي “شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه” ويكون الثبات في الجماعة هو الثبات المذكور في النصوص الدينية والمتعلقة بالدين والإيمان، وكلمة الجماعة نفسها التي ترد في النصوص الدينية والتراثية يكون معناها الحصري “الجماعة” التي سجلت في وزارة الشؤون الاجتماعية أو سجل الجمعيات؛ عام 1928 أو عام 1953، او عام 2015، بل إن الشرعية الدينية نفسها في الخلاف بين الجماعتين في الأردن يستند إلى الأقدمية أو الفرق بين عامي 1953 وعام 2015 وهنا ينطبق على الفرق أحاديث الخروج الكثيرة والمتداولة، وبطلان البيعة لإمامين، وللجماعات عقود بيعة تستمد حضورها وشرعيتها من آيات وأحاديث وتطبيقات البيعة في الدين والتاريخ، بل إن كثيرا من المطالب بالالتزام نحو الجماعة وقادتها تستند في شرعيتها الدينية إلى شخص الرسول نفسه.

هكذا، تحول الرمز إلى أصل وأصبحت الجماعة هي الدين، ولم تعد أداة واجبة لتحقيق الواجب عملا بالقاعدة الفقهية التي تروج بالطبع مثل غيرها من القواعد الأصولية على أنها دين يكاد يكون أوجب من القرآن

وكم سمعنا الآية ” لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض، أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون” دليلا على وجوب احترام الجماعة وقادتها وأمرائها ونقبائها ورقبائها حتى لا تحبط أعمالنا، .. هكذا تحول الرمز إلى أصل، وأصبحت الجماعة هي الدين، ولم تعد أداة واجبة لتحقيق الواجب عملا بالقاعدة الفقهية التي تروج بالطبع مثل غيرها من القواعد الأصولية على أنها دين يكاد يكون أوجب من القرآن “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” ..

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version