نخبة بوست – حسن جابر

في خطوة غير مُعلنة وتعتبر مفاجئة، توجه وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى العاصمة السورية دمشق، حاملًا رسالة شفوية من الملك عبد الله الثاني، حيث التقى ببشار الأسد وعددًا من السياسيين السوريين. تأتي هذه الزيارة في وقت حساس وسياق إقليمي مضطرب يشهده الشرق الأوسط، مما يبرز أهمية الاشتباك الدبلوماسي المباشر واستكشاف توجهات الأطراف حيال القضايا الرئيسية، لا سيما الأطراف العربية ذات الصلة بإيران. في هذا السياق، ربما يفهم أن زيارة الصفدي لا تقتصر فقط على معالجة مجموعة الملفات الرئيسية للأردن في سوريا؛ كمكافحة شبكات تهريب المخدرات النشطة في الجنوب السوري، وبحث مستقبل العودة الآمنة والطوعية للاجئين السوريين المقيمين في الأردن. بل على العكس، فإن توقيت هذه الزيارة يفتح الباب للنقاش حول مسائل محورية تتجاوز هذه القضايا، في هذه المرحلة تحديدًا، مما يثير افتراضات قد تساهم في فهم المشهد الجيوسياسي الأوسع في سوريا، والمرتبط بشكل وثيق بالتطورات الإقليمية في الشرق الأوسط، وتنامي فرص تحول الساحة السورية لمواجهات جديدة ومباشرة بين إيران وإسرائيل.

ربما يمكن اعتبار زيارة الصفدي إلى دمشق على أنها محاولة أردنية لبناء تقدير موقف عربي عبر التواصل المباشر مع النظام السوري، ومحاولة استكشاف تموضع النظام في المرحلة المقبلة، وبالتالي، تُشكل هذه الزيارة فرصة لفهم ما إذا كانت دمشق مستعدة للتحلل التدريجي والنأي بنفسها عن إيران، في سبيل الاستمرار والبقاء أمام التحولات الإقليمية، والتي قد تعتبر تهديدًا وجوديًا للنظام السوري خاصة مع ترقب الضربة الإسرائيلية الوشيكة، إذ تُطرح في بعض الأوساط السياسية، وتشير عدة تقديرات عسكرية؛ إلى ارتفاع فرص استهداف إسرائيل مباشرة لمناطق سيطرة النظام السوري، حيث تكشف تحركات الجيش الإسرائيلي الأخيرة في شمال الجولان عن وجود نية إسرائيلية لتوسيع المنطقة العازلة بين سوريا وإسرائيل، أو حتى تنفيذ عمليات عسكرية قد تحمل في طياتها اجتياحًا بريًا في الجنوب السوري.

بذلك، يمكن تصور أن الحكومة الإسرائيلية لم تعد ترى أي قيود في فتح جبهة جديدة في الجنوب السوري، وقد تُعزز هذه التصورات استمرار حالة هوس اليمين الإسرائيلي في التوسيع المستمر لرقعة الصراع في الشرق الأوسط، ورغبة صُناع القرار الإسرائيليين في استغلال الفرصة السانحة لترتيب الأوراق المحيطة بهم، وبشكل خاص الوجود الإيراني في الجوار القريب، وبذلك تحقيق الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية. جميع ما تقدم تعتبر عوامل تضع النظام السوري عُرضةً للاستهداف الإسرائيلي المُرتقب ردًا على إيران.

في الجانب المقابل، يدرك “محور المقاومة” بوادر تحول مناطق سيطرة النظام السوري لساحة مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وفي سبيل التحضيرات للمواجهة، يمكن فهم استمرار تدفق المقاتلين والخبراء العسكريين نحو الأراضي السورية، وليس آخر الواصلين اليوم 25 قياديًا وخبيرًا من جماعة (أنصار الله) الحوثيين لمدينة دير الزور السورية عبر الحدود العراقية، إذ تشير مصادر إلى أنهم من المتخصصين في تشغيل وتسيير المسيرات والصواريخ، بالإضافة للعديد من عناصر فيلق القدس والفصائل العراقية، والتي باتت تتجهز لقتال محتمل في الأراضي السورية.

بذلك؛ تُدرك عمَّان حجم التحديات الكبيرة التي تواجه النظام السوري، خاصة إذا ما تحولت مناطق سيطرته لساحة حرب مفتوحة عبر مواجهات عسكرية بين الفصائل الإيرانية وإسرائيل، وهو ما يعني ارتفاع فرص التهديدات المنبثقة عن ردود أفعال الطرفين وتداعياتها على أمن واستقرار الأردن. بالتالي، قد ترغب عمَّان بإعادة تحريك المسار الدبلوماسي العربي مع النظام، والعودة لتنشيط مقاربة “الخطوة مقابل خطوة”، والذي لطالما تعثر نتيجة لغياب جدية النظام في الاستجابة للمطالب العربية والأردنية. ويظهر مرتكز الأردن نابعًا من إدراك تبلور سنة 2021؛ مفاده أن النظام هو الطرف السوري الأقرب للتفاهم معه بهدف تأمين المصالح الأردنية الحيوية في الجنوب السوري على وجه الخصوص.

من هنا، قد تُنتج مخرجات الاشتباك الدبلوماسي الأخير فرصة ذهبية للنظام السوري -إن أحسن استغلالها- للعودة بشكل جاد وحقيقي للعمق العربي، خاصة في ضوء استمرار حالة من “السُخط” تجاهه من إيران و”محور المقاومة” بعد سنة من بدء الحرب على غزة نتيجة لعدم انخراط النظام -ولو بالحد الأدنى- لإسناد المحور خاصة في جبهة الجولان، بالإضافة لاستمرار حالة عدم الرضا الروسية من سلوك النظام المُختطف إيرانيًا، لا سيما بعرقلة محاولات تطبيع العلاقات مع تركيا، والذي مهدت له روسيا بصورة مكثفة خلال الشهور الماضية.

في الختام، ومع استمرار حالة الغموض حول مستقبل الحرب في الشرق الأوسط وتزايد احتمالات توسع رقعتها لتشمل الأراضي السورية، برزت زيارة الصفدي لدمشق كخطوة دبلوماسية مهمة، لكن فحواها يبقى موضع تساؤل مفتوح، خاصة عند الحديث عن موقف النظام السوري أمام هذه التحولات. وإذ يُحتم التفكير المنطقي من منطلق الواقعية السياسية؛ التساؤل حول قدرة النظام على التحلل تدريجيًا عن النفوذ الإيراني، ومساحة هامش المناورة المتاح لديه، فحال سلمنا بتشكل الإرادة السياسية في دمشق لذلك؛ تظهر معضلة حدود القدرة والاستطاعة على تحقيق هذا الهدف، وهي ما تعتبر محدودة إلى حد ما بسبب تعقيدات وعمق النفوذ الإيراني في أجهزة النظام العسكرية، بالإضافة للوجود الفعلي للفصائل والمنشآت والمواقع العسكرية المرتبطة بإيران، وبشكل خاص في الجنوب السوري.

لا تنحصر المعضلات في سوريا في مخاطر توسع رقعة الحرب الإسرائيلية نحوها، إذ إن استمرار النزاع المحلي بلا تسوية سياسية حقيقية يبقى الإشكالية الرئيسية، خاصة في ضوء حالة انقسام الجغرافيا السورية بين أطراف محلية رئيسية، أبرزها النظام السوري بسيطرته على ما يقارب 63% من عموم الجغرافية السورية، بالإضافة لبقاء حالة الاستقطاب الدولي والإقليمي والتي أفرزت تدخل القوى الإقليمية والدولية المباشر على الأرض، بالإضافة لانتشار شبكات المخدرات والجريمة المنظمة، فضلًا عن الحديث عن فرص عودة آمنة للاجئين السوريين؛ وبالتالي، فإن نجاح النظام السوري في تجاوز التصعيد الإقليمي بين إسرائيل وإيران؛ لا يعني التوصل لحلول لكافة المعضلات السورية، حيث إن الأزمات المركبة والمعقدة في المشهد السوري تتجاوز حدود ما سبق.

معهد السياسة والمجتمع

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك للحصول على أحدث التدوينات المرسلة إلى بريدك الإلكتروني.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

اكتشاف المزيد من نخبة بوست

اشترك الآن للاستمرار في القراءة والحصول على حق الوصول إلى الأرشيف الكامل.

Continue reading

Exit mobile version