* ماذا عن الحرب الدائمة والمغلفة بالصمت وهي على مرأى وسمع الجميع؟ نعم هي غير هذه الحرب التي تدور رحها الطاحنة وتستعر نيرانها منذ أكثر من عام
* لم يمر شهر في العقدين الماضيين تقريبا دون أن تقوم إسرائيل بقصف ما في منطقة ما في سوريا؛ وهو قصف يستهدف بنىً عسكرية ولوجستية، أو جنودا سوريين أو حلفاء
* مع انطلاق الربيع العربي ودخول سوريا في دوامة الأحداث الداخلية الدموية، تصاعد هذا القصف وإرتفعت وتيرته حتى صار فعلا مألوفا وشبه يومي، أو على أقل تقدير أسبوعي
* فيما مضى كان ينتج عن كل غارة أو إعتداء إسرائيلي رد فعل سوري على شكل بيان أو تصريح شديد التوعد وأن الرد قادم لا محالة، لكن المتابع يلحظ أن حتى هذه البيانات والتصريحات أصيبت بحالة من الخفوت وإنخفاض النبرة
* اليوم حزب الله الحليف الرئيسي لسوريا ضمن محور إيران يتعرض لمواجهة مصيرية؛ ورغم ثباته ومواصلته القتال بتحدٍ إلا أنه تكبد خسائر جسيمة في قيادته العليا والوسطى
نخبة بوست – كتب: هزاع البراري ( كاتب ومحلل سياسي)
ماذا عن الحرب الدائمة والمغلفة بالصمت وهي على مرأى وسمع الجميع؟
نعم هي غير هذه الحرب التي تدور رحها الطاحنة وتستعر نيرانها منذ أكثر من عام، وقد تعددت الجبهات وعَلت لغة المسيرات وتشابكت رشقات الصوارخ مع زخم الغارات الجوية، واستفحلت عمليات الإغتيال والتصفية بشكل غير مسبوق، كل هذا يعلن عن نفسه بفجاجة ونتابعه في كل المستويات.
لكن ماذا عن الحرب المتواصلة دون كلل منذ سنوات بل وربما منذ عقدين، حرب أحادية الجانب وحق الرد محفوظ دائما في الأدراج، هي حرب لأنها لم تتوقف رغم طول المدة، تستريح أياما لتتجدد وكأنها تبعث من جديد، هل هو الإعتياد الذي جعل منها فعلا روتينيا لا يتجازو كونه خبر عابرعن هجمة صاروخية هنا وأخرى جوية هناك، والليل سِتار وستّار، باعتبار أن دفتر الحساب قد إمتلأ وأن وقت السداد أو العقاب مؤجل برسم التحولات والأولويات، وحسابات الخسارة المجزأة أفضل من الخسارة الكبيرة الكاملة، هي إذن حسابات البقاء داخل اللعبة، ومهارة تأجيل النهاية التي لا تنبئ مقدماتها عن حسن مآل.
لم يمر شهر في العقدين الماضيين تقريبا دون أن تقوم إسرائيل بقصف ما في منطقة ما في سوريا، وهو قصف يستهدف بنىً عسكرية ولوجستية، أو جنودا سوريين أو حلفاء، ومع انطلاق الربيع العربي ودخول سوريا في دوامة الأحداث الداخلية الدموية، تصاعد هذا القصف وإرتفعت وتيرته حتى صار فعلا مألوفا وشبه يومي، أو على أقل تقدير أسبوعي، ونلاحظ أن الحروب السابقة على لبنان أو على غزة كانت ذات مدد قصيرة أو متوسطة ثم تتوقف، وتهدأ الجبهة تماما، لكن القصف الإسرائيلي على سوريا لم يتوقف ولم يهدأ بمعنى الهدوء التمام، بل حافظ على وتيرته التصاعدية، وتعدد بنك الأهداف حتى لم تسلم منه أحياءً في العاصمة دمشق ومحيط المطار الدولي، وصولا إلى الشمال الغربي والشمال الشرقي، كل هذا ألفه الإعلام على مدى سنوات، ولم يعد يتوقف عنده التحليل السياسي إلا ما ندر.
فهل هذا نوع من الاستسلام لحتمية هذه الهجمات الاستنزافية؟ أم أن غياب رد الفعل الرادع لم يجعل منها مدعاة للتوقف والتأمل، فالفعل أحادي الجانب، والرد يقع في خانة الافتراضات المستقبلية.
فيما مضى كان ينتج عن كل غارة أو إعتداء إسرائيلي رد فعل سوري على شكل بيان أو تصريح شديد التوعد وأن الرد قادم لا محالة، لكن المتابع يلحظ أن حتى هذه البيانات والتصريحات أصيبت بحالة من الخفوت وإنخفاض النبرة، وفي بعض الأحيان شبه الغياب التام، ومن الواضح أيضا أن أوار هذه الهجمات قد تزايد وتكاثف في الخمس سنوات الأخيرة، مع تركيز أكثر على قصف تمركز عسكرية ومخازن تابعة لإيران، وتهديد الملاحة في مطار دمشق الدولي أكثر من مرة كونه يعد أحد معابر الدعم العسكري والمادي لحزب الله.
اليوم حزب الله الحليف الرئيسي لسوريا ضمن محور إيران يتعرض لمواجهة مصيرية، ورغم ثباته ومواصلته القتال بتحدٍ إلا أنه تكبد خسائر جسيمة في قيادته العليا والوسطى، وتم الفتك بكثير من عناصره بعملية البيجر، والتي مهدت الطريق لشن حرب كبيرة على الحزب، ومحاولة مستمرة لتدمير الضاحية في بيروت، وكل هذا يستعدي موقفا أكثر وضوحا وصرامة من سوريا، على الأقل موقفا موازيا لموقفها إبان حرب 2006، لكن الخفوت هو الأكثر وضوحا والبيانات الداعمة للحزب أصبحت تتسم بالهدوء الذي لا يتفق مع المجريات المتصاعدة بشكل لافت، هو شبه صمت يتلمس المتغيرات الإقليمية والدولية.
ولعل سوريا اليوم تفكر بإعادة التموضع عربيا، وتخفيف قيود الحلف مع إيران، ربما تمهيدا لإحداث إستدارة كبيرة، تبتعد فيها سوريا عن محور إيران وهي التي تشكل العمود الفقري له، مستجيبة بذلك لتداعيات عودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهو المعروف بتشدده اتجاه النظام السوري، حتى أنه دعى خلال فترته الأولى في الحكم إلى إغتيال رأس النظام في سوريا، بالإضافة إلى ما أصاب حماس من ضعف على أكثر من مستوى، وقيام إسرائيل بتدمير كبير في غزة، وإعادة سيطرتها عليها، وما يعانيه حزب الله من ضغوط هائلة، ربما تنتهي بإخراجه من المعادلة السياسية والعسكرية، أو إضعافه بدرجة كبيرة، وهذا بالتأكيد يفقد سوريا كثير من أوراقها، خاصة مع محاولة إيران الدخول بتسوية ما مع الغرب وتقليل بؤر الصدام معهم، وهذا أيضا سيفقد سوريا زخم الدعم الإيراني؛ لا شك أن النظام في سوريا يدرك كل هذه التحولات ومآلاتها، فنجده يدخل في حالة هدوء وتأمل تمهيدا لتغير ما قد يكون جوهريا؛ ما هي خيرات النظام في سوريا إذن؟
لاشك سيعمد إلى تفعل عودته العربية الخجولة، من خلال الاستجابة للتوجهات والمبادرات العربية وعدم ممانعتها، والحضور الأكثر فعالية في جامعة الدول العربية، وكف يده تدريجيا عن حزب الله الحليف الاستراتيجي، والإنكفاء عن إيران شيئا فشيئا، وقد لاحظنا غياب الأسد عن مراسم تشييع الرئيس الإيراني رئيسي، والبرود في التواصل الإعلامي والدبلوماسي معها.
كما اعتقد أن الأسد يعول أيضا على الرئيس الروسي بوتين في المساعدة في إعادة تقديم النظام بوجهه الجديد خاصة بعد بوادر خروج بوتين من عزلته الغربية بعد عودة ترامب ورسائل الترحاب بينمها غير المباشرة، وأيضا مبادرة المستشار الألماني بالاتصال مع بوتين التي تحدث لأول مرة منذ اندلاع الحرب الإكرانية، ناهيك عن أن كل من أمريكا وروسيا تمتلك قواعد عسكرية في سوريا مع اختلاف شرعية أو عدم شرعية هذه القواعد.
كما أن بوادر التقارب التركي السوري قد يندرج في ذات السياق الداعي إلى دفع سوريا إلى المبادرة بإحداث هذا الاستدارة الكبيرة، التي إن حدثت قد تعيد الحوار الغربي مع سوريا في إطار تسوية سياسية سورية داخلية ضمن تسوية إقليمية قد تكون استجابة لما صار يسمى إعادة ترتيب الشرق الأوسط من جديد.