نخبة بوست – يأتي عيد ميلاد فيروز التسعون في ظرف لا يستطيع معه لبنان أن يقدم احتفاء لائقاً بأيقونته الكبرى و”سفيرته إلى النجوم”. عدوان الاحتلال الإسرائيلي على لبنان، وعلى الجنوب خصوصاً، وانشغال المجتمع بأخبار الحرب ومشاهد الدمار ونزوح الأسر، يجعل من أي حديث عن الغناء ونجومه ترفاً لا يملكه الشعب المنهك قبل اشتعال الحرب، وبعده.
لكن فيروز عند اللبنانيين لم تكن يوماً مجرد مطربة تمتلك صوتاً ساحراً لا نظير له، وإنما كانت دوماً العنوان الأكبر للوجدان اللبناني، والذاكرة اللبنانية، والتميز في الحب والحرب والسلم والشدة والرخاء، في الصيف والشتاء، في البيت والضيعة، في السهل والجبل والشوارع. اسم فيروز يعني رحلة فنية بدأت قبل سبعين عاماً، كان صوتها، بل وشخصها، أحد أكبر مصادر قدرة لبنان وشعبها على البقاء والاستمرار، وأيضاً مثلت فيروز بصوتها وشخصها رمزاً للوحدة، في مجتمع ينقسم حول كل شيء، ويختلف حول كل شيء، إلا فيروز وصوتها.
غنت “جارة القمر” لكثير من البلدان والعواصم والمدن العربية، يحبها المصريون وهي تغني: “مصر عادت شمسك الذهب”، أو وهي تغرد: “شط إسكندرية يا شط الهوى”، ويهيم به السوريون وهي تشدو “يا شام عاد الصيف متئدا”، أو “أحب دمشق”، ويعشقها الأردنيون وهي تترنم: “أردن أرض العزم” أو “عمَّان في القلب”، ويهيم بها العراقيون وهي تنادي: “بغداد والشعراء والصور”. لكن رصيدها من الغناء للبنان كان كبيراً وملهماً ومؤثراً. وفي الظروف العصيبة الحالية، يعيش اللبنانيون على هذا الإرث الفني الكبير، ويستدعونه ليعينهم على الصمود وتجاوز المحنة.
كان لبنان حاضراً في غناء فيروز، وكان اهتمامها بالجنوب لافتاً، وصالحاً للاستدعاء في عيد ميلادها التسعين. تبدو فيروز محملة بفائض من المشاعر تجاه وطنها، فحاولت دائماً التعبير عنها بأغنيات مختلفة. ويمكن بمنظور جغرافي تقسيم أغنيات فيروز الوطنية إلى ثلاثة أقسام: الأول؛ الغناء للبنان، لبنان كله، باعتباره الوطن الجامع، أو لبنان الدولة، مثل: “بحبك يا لبنان” أو “ردني إلى لبنان” أو “وطني يا جبل الغيم الأزرق”، أو “لبنان يا أخضر يا حلو”. والثاني؛ الغناء لمدينة لبنانية، مثل العاصمة بيروت التي شدت لها فيروز بأغنية: “لبيروت من قلبي سلام”، أو بعلبك، التي غنت لها: “أنا شمعة على ترابك”، والثالث الغناء لجهة أو منطقة بعينها، وفي مقدمة هذا القسم، يأتي الغناء للجنوب الذي أولته فيروز اهتماماً كبيراً، تجلى في تعدد الأعمال، وتوزعها على فترة زمنية طويلة، واستمرارها رغم تغير المؤلف أو الملحن.
“إسوارة العروس مشغولة بالذهب”، مطلع نص كتبه جوزف حرب (الجنوبي) ولحنه فيلمون وهبي، وغنته فيروز، فكانت واحدة من أشهر أغنيات الجنوب. وكعادة حرب في خلق صورة جديدة حية، وطريقته في جذب الانتباه ببراعة الاستهلال كما يقول البلاغيون، جاء مطلع الأغنية لافتاً، فالشطرة الأولى لا تنبئ عن موضوع النص، ولم تكن إلا تمهيداً لا يستبين إلا بالشطرة الثانية التي تدخل المستمع في صلب الموضوع، وأيضاً تتحول إلى ثيمة متكرّرة في نهاية كل مقطع. تقول الكلمات: “إسوارة العروس مشغولة بالدهب.. وأنت مشغول بقلوب يا تراب الجنوب.. رسايل الغياب مكتوبة بالسهر.. وأنت بالعز مكتوب يا تراب الجنوب.. وبتولع حروب و بتنطفي حروب.. وبتضلك حبيبي يا تراب الجنوب.. اللي حامل ع كتافو زيتون وسنابل.. قلعة بحر صور.. صخرة جبل عامل.. اللي حامل وراق شعرا وعشاق.. وشو ما إجا شعوب.. وشو ما راح شعوب.. كلن راح بيفلو وبيبقى الجنوب”.
يقدّم فيلمون وهبي لحناً يجمع بين الأناقة اللائقة بفيروز، وبين مسحة شعبية تتناسب مع “الحالة الجنوبية”، تُسهّل على المستمع حفظ الأغنية وترديدها. مثلاً، فإن مقدمة الأغنية جاءت على مقام العجم، لكن بعد جملتين قصيرتين يتحول اللحن إلى مقام الصبا، من دون إفراط في استخراج مخزون الحزن الكامن فيه، ثم يرجع اللحن إلى العجم، لكن يبدأ الغناء من مقام الصبا في شجن واضح، مع حرص على الابتعاد عن منطقة الانتحاب التي يختزنها هذا المقام، ثم يراوح اللحن بين الصبا والعجم، وعليه يكون الاستقرار وإقفال المقطع الأول. في القسم الأخير، يواصل جوزف حرب تقديم صوره الطازجة: “لما بغني اسمك بشوف صوتي غلي.. إيدي صارت غيمة وجبيني علي.. الشمس بتطلع سودا.. وبييبس الموج.. إذا بفكر إنو ترابك مش إلي.. ويا شعب الشعوب.. الأقوى من الحروب.. بتبقى إذا بيبقى يا شعب الجنوب”. يغير فيلمون وهبي مساره، بتصعيد لحني درامي بالغ الإطراب، وبروح شرقية يجلجل فيها صوت فيروز مع مقام البياتي، قبل أن تعود إلى كلمات الاستهلال ولحنها الأول بمقام الصبا ابتداءً، والعجم ختاماً.
قدمت فيروز هذه الأغنية لأول مرة عام 1984، فصارت من الأعمال التي تنافس على المرتبة الأولى بين الأغاني المخصصة للجنوب اللبناني. بالطبع، يرجع هذا النجاح إلى جدة الكلمات، وتناسب اللحن، وعظمة الأداء الفيروزي، لكن يمكن أن نضيف إلى هذه العناصر ميل الشاعر إلى أن تكون كلمات الأغنية ذات بعد إنساني، من دون تورط في موقف سياسي مباشر.
في منتصف الثمانينيات، كتب زياد الرحباني كلمات أغنية سماها “نشيد المقاومة اللبنانية”، يقول فيها: “خلصوا الأغاني هني ويغنوا ع الجنوب.. خلصوا القصايد هني ويصفوا ع الجنوب.. ولا الشهدا قلوا ولا الشهدا زادوا.. وإذا واقف جنوب واقف بولاده.. خلصوا القضايا هني ويردوها ع الجنوب.. كسروا المنابر هني ويعدوا ع الجنوب.. اللي عم يحكوا اليوم هو غير اللي ماتوا.. اللي معتر بكل الأرض دايمن هوي ذاتو.. هيدي مش غنية هيدي بس تحية.. وبس”.
من الواضح أن أسلوب زياد الرحباني في رصف هذه الكلمات جاء مختلفاً عن أسلوبه المعتاد فيما كتبه قبلها. لحن الرحباني كلماته، وغناها سامي حواط. لكن بعد نحو 15 عاماً، استطاع إقناع والدته بأداء الأغنية ضمن ألبومها الشهير الذي ضم أغنيات حفل بيت الدين عام 2000، بعد أن صحبها بالعزف على البيانو. أضافت فيروز، إذن، أغنية جديدة إلى سجلها من الأغنيات الوطنية عموماً، والجنوبية خصوصاً. تميزت هذه الأغنية عن “إسوارة العروس” بكونها مباشرة وواضحة، في نصها وفي عنوانها.
يرى بعض المهتمين بتاريخ الفن أن لفظة “الجنوب” بدأت تظهر في الغناء اللبناني بعد هزيمة يونيو/حزيران عام 1967، وتحديداً عندما غنى وديع الصافي من كلمات الشاعر أسعد سابا: “الله معك يا بيت صامد بالجنوب”. جاءت اللفظة في أغنية لفيروز عام 1977، ضمن مسرحية بترا للأخوين رحباني: “يا زهرة الجنوب.. يا عصفورة البكي.. يا زغيرة اغفريلي.. ياللي كنت تضلي حزينة”. لكن “الجنوب” هنا يأتي بمعناه الشائع، وهو أوسع من المعنى الوطني أو السياسي، ويرى آخرون أن المقصود هو جنوب الأردن، وتحديداً مدينة البتراء التي سميت باسمها المسرحية.
لا ريب أن الظرف السياسي والإنساني في لبنان غير مناسب، وأن الحرب ألقت بكل ظلال الألم والكآبة على البلد الصغير الجميل، فشغلت لبنان الدولة والشعب عن عيد الميلاد التسعين للصوت الذي أحبه اللبنانيون والعرب. لكن مكانة فيروز الأيقونية ودورها المعنوي والثقافي باعتبارها أكبر رمز لبناني معاصر، وأغنياتها التي تكاد تكون سجلاً لذكريات شعب بأكمله، ومسرد أغنياتها الوطنية الضخم، وغنائها للجنوب الذي يواجه حالياً حرباً ضروساً. كل ذلك يجعل من الاحتفاء بـ”جارة القمر” نوعاً من مساعدة اللبنانيين على الصمود.