نخبة بوست – (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات)
بعد أن اتضحت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2024، بدأ الرئيس المنتخب دونالد ترامب بتشكيل فريقه الحكومي، وبدأ، بالتزامن، تركيز التحليلات على مواقف إدارته المتوقعة من عدّة قضايا أساسية، أهمها: العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، والحرب الروسية – الأوكرانية، والعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة ولبنان، وأزمة البرنامج النووي الإيراني. وترتبط المواقف من هذه القضايا برؤية إدارة ترامب وترشيحاتها للمناصب الرئيسة في مجالَي الأمن والدفاع والسياسة الخارجية.
رؤية إدارة ترامب
تستند رؤية إدارة ترامب في مجال السياسة الخارجية إلى مبدأ “السلام من خلال القوة”، إذ يقول إنه يهدف منها إلى منع اندلاع حرب عالمية ثالثة، واستعادة السلام في أوروبا والشرق الأوسط، وتحصين الولايات المتحدة من أي هجماتٍ معادية.
ويتحقق ذلك من خلال: الإعلاء من شأن المصلحة الوطنية الأميركية. تحديث الجيش الأميركي ليبقى أقوى جيش في العالم. ضمان وفاء الحلفاء بالتزاماتهم في مجال الدفاع المشترك. تعزيز القدرات الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية لـ “حماية أسلوب الحياة الأميركي”. الدفاع عن حدود الولايات المتحدة. إحياء القاعدة الصناعية الأميركية لضمان إيجاد وظائف جديدة للأميركيين، مع إيلاء الصناعات الدفاعية الأولوية. حماية البنية التحتية الأميركية من الهجمات السيبرانية المعادية.
تثير هذه المبادئ جملة من المخاوف لدى حلفاء الولايات المتحدة وخصومها على حدّ سواء؛ نظراً إلى ما تضمره مواقف ترامب السلبية من العمل الدولي المتعدد الأطراف، ومعارضته للاتفاقات التجارية الدولية، وسعيه للتحلّل منها، وإعجابه بالأنظمة والقادة الاستبداديين. وبالقدر نفسه، يثير افتقاره إلى مقاربة منسجمة في السياسة الخارجية، وعدم القدرة على التنبؤ بقراراته، وإحاطة نفسه بمجموعة من المستشارين المتطرفين، وميله إلى تبني مقارباتٍ في السياسة الخارجية على نمط الصفقات التجارية (Transactional Foreign Policy)، مخاوفَ كبيرة من تراجع دور الولايات المتحدة في العالم.
يضاف إلى ذلك تفكيك مؤسّسات النظام الدولي، على نحو يخدم أهداف روسيا والصين، وتقويض أسس التحالف الغربي، ولا سيما مع تشكيك ترامب في أهمية حلف شمال الأطلسي (الناتو) وفاعليته، والاتفاقات والمعاهدات الدولية مع الحلفاء والشركاء.
ترشيحات إدارة ترامب
إلى جانب رؤية إدارة ترامب وميولها الانعزالية، تثير ترشيحاته للمناصب الرئيسة في مجالَي الأمن والسياسة الخارجية القدر نفسه من القلق. وخلافًا لفترته الرئاسية الأولى، تظهر ترشيحاته للمواقع الحساسة في إدارته، في وزارتي الخارجية والدفاع والأجهزة الاستخباراتية والسفراء، أنّ الولاء لشخصه يتقدم على سائر المعايير في التعيينات؛ بما فيها معيار الكفاءة التي مثّلها بعض الرجال الأقوياء المحسوبين على المؤسّسة التقليدية في الدولة في بداية إدارته الأولى، مثل وزير الدفاع الأسبق جيمس ماتيس، ووزير الخارجية ريكس تيلرسون.
وتثير ترشيحاته لكل من بيت هيجسيث، المقدم السابق في قناة فوكس نيوز اليمينية لمنصب وزير الدفاع، وتولسي جابارد، النائبة الديمقراطية السابقة لمنصب مديرة الاستخبارات الوطنية، مخاوفَ كبيرة داخل مؤسسات الحكم الأميركية، وعبر العالم أيضاً؛ ليس فقط بسبب قلة خبرتهما، بل أيضًا بسبب تطرفهما والأفكار الانعزالية التي يتبنيانها والمناصب الحساسة المتوقع أن يشغلاها.
في حين يتماهى مرشحا ترامب لوزارة الخارجية السيناتور ماركو روبيو، والنائب مايك والتز لمنصب مستشار الأمن القومي، مع مبدأ “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” الانعزالي الذي يقوده ترامب، علمًا أنهما كانا من المحسوبين على تيار المحافظين الجدد الذي سبق أن هيمن على الحزب الجمهوري.
السياسة الخارجية المتوقّعة في عهد ترامب
توحي رؤية إدارة ترامب، وترشيحاته للمناصب الرئيسة فيها، بأننا أمام مرحلة من الاضطراب في السياسة الخارجية الأميركية، خلال السنوات الأربع المقبلة، وسوف تشمل خصوصًا منطقة الشرق الأوسط، والحرب الروسية – الأوكرانية، والتنافس مع الصين، والعلاقة مع “الناتو”.
الشرق الأوسط
على الرغم من أن ترامب دعا مراراً إلى إنهاء الحرب في قطاع غزة؛ على أساس أن إسرائيل “تخسر معركة العلاقات العامة”، واعتبر أنه وحده القادر على إنهاء الحرب، فإنه انتقد، في المقابل، خلال حملته الانتخابية، ما وصفه بالقيود التي تضعها إدارة جو بايدن على “حق إسرائيل في الانتصار في حربها على الإرهاب”، وحثّ بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، على “إنهاء المهمّة” وتدمير حركة المقاومة الإسلامية (حماس).
ويُعتقد، على نطاق واسع، أن سياسة ترامب تجاه منطقة الشرق الأوسط سوف تكون امتدادًا لسياسة إدارته الأولى التي اتصفت بالانحياز المطلق إلى إسرائيل وفرض عقوبات شديدة على إيران. ويُستدل على ذلك من تصريحاته خلال الحملة الانتخابية، والترشيحات التي أعلن عنها لبعض المواقع الحساسة في السياسة الخارجية، والتي تتشارك في الانحياز المطلق إلى إسرائيل.
وأغلق مكتب بعثة منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقطع التمويل عن وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (أونروا). وتراجعت وزارة الخارجية في عهده عن موقف تقليدي لها، باعتبار المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية غير شرعية، أو “عائقًا أمام السلام”، كما اعترفت إدارته بالسيادة الإسرائيلية على الجولان السوري المحتل.
وعمد ترامب إلى تهميش القضية الفلسطينية، عبر التركيز على التطبيع العربي – الإسرائيلي؛ وهو ما كان من خلال الاتفاقات الإبراهيمية التي وقعتها كل من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب مع إسرائيل. وسعى كذلك لفرض خطّته المعروفة باسم “السلام من أجل الازدهار” على السلطة الفلسطينية؛ من أجل تصفية ما تبقى من الحقوق الفلسطينية.
ومن المؤشّرات المهمة على موقف ترامب من القضية الفلسطينية ترشيحه لحاكم ولاية أركنساس السابق، القس الإنجيلي مايك هاكابي، ليشغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى إسرائيل. والمعروف أن هاكابي ينكر وجود الشعب الفلسطيني، وسبق أن عبّر عن اقتناعه بأن الضفة الغربية (يصرّ على الإحالة إليها باسمها العبري “يهودا والسامرة”) ينبغي أن تكون جزءاً من دولة إسرائيل. وينطبق الأمر عينُه على مرشّحته لشغل منصب سفيرة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة، إليز ستيفانيك، وكذلك مرشحه لمنصب المبعوث الخاص إلى الشرق الأوسط، ستيفن ويتكوف، قطب العقارات اليهودي في نيويورك، الذي كان حلقةَ الوصل بين ترامب والمجتمع اليهودي الأميركي خلال الانتخابات.
وإدراكاً من نتنياهو توجّهات إدارة ترامب، كان أول زعيم أجنبي يهنئه بالفوز في الانتخابات، وعيّن على الفور يحيئيل لايتر سفيراً جديداً لإسرائيل في واشنطن. ويُعدّ لايتر، الذي نشأ في الولايات المتحدة، من غلاة المستوطنين، وكان عضواً في رابطة الدفاع اليهودية المتطرفة التي أسّسها الحاخام مائير كاهانا، والتي تصنفها الولايات المتحدة منظمةً إرهابية، وهو يدعو إلى ضم الضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين، وطردهم بالقوة منها.
ويُخشى من أن يتجاوب ترامب مع تطلعات نتنياهو، خصوصاً أن خطة السلام التي قدمها عام 2020 أشارت إلى ضمّ أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وقد لا يمانع أيضاً في مساعي حكومة نتنياهو لضم أجزاء من قطاع غزة؛ إذ سبق أن صرّح إن المطوّرين العقاريين يمكن أن يجعلوا غزّة “أفضل من موناكو”، لأنها تتمتّع بـ “أفضل موقع في الشرق الأوسط، وأفضل شواطئ”.
هذا لا يمنع طبعًا أن يحاول ترامب إنهاء الحرب في المنطقة بشروط الحد الأدنى الإسرائيلية، خاصة أن الولايات المتحدة نشرت في عهد بايدن أصولاً عسكرية كبيرة فيها. وفي مسعاه إلى إظهار فشل بايدن وتميزه منه، قد يبدو كأنه يضغط على حكومة نتنياهو للقبول بوقف إطلاق النار في قطاع غزّة ولبنان على أساس “الإنجازات الإسرائيلية” في الحرب، والتركيز على التوصّل إلى اتفاق تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل؛ وهو أمرٌ سعى له خلال ولايته الرئاسية الأولى.
التنافس مع الصين
تتفق مقاربة ترامب للصين مع مقاربة إدارة بايدن ومؤسّسة الحكم الأميركية عمومًا، التي ترى أن الصين هي المنافس الجيوسياسي الأبرز للولايات المتحدة على الساحة الدولية. لكن ترامب يسعى لتبنّي نهج أكثر تشددًا معها، خلافًا لإدارة بايدن التي تبنّت سياسة “إدارة التنافس” معها.
وقد تعهّد ترامب بإنهاء المعاملة التفضيلية للصين في التجارة مع الولايات المتحدة، وبفرض رسوم جمركية على الواردات منها تتجاوز 60%، وهي أعلى كثيراً من الرسوم التي فُرضت خلال ولايته الرئاسية الأولى. وعلى الرغم من أنّ رفع التعرفة الجمركية على الصادرات الصينية قد يؤثر سلبيّاً في الاقتصاد الصيني، فإنه سيكون أشدّ تأثيراً في المستهلك الأميركي الذي سيعاني ارتفاعاً حادّاً في الأسعار. ويُرجّح أن يبحث ترامب عن طريقة لاستعراض القوة العسكرية الأميركية في آسيا، في مؤشّر آخر لابتعاده عن سياسة إدارة بايدن، على الرغم من أن هذه النزعة “الصقورية” لن تؤدي، على الأرجح، إلى تغيير سياسات الصين من قضايا تايوان والنزاع على بحر الصين الجنوبي.
ولا تخفي الصين قلقها من بعض أعضاء فريق السياسة الخارجية الذي رشحه ترامب، وفي مقدّمتهم روبيو ووالتز، وجون راتكليف المرشح لقيادة وكالة الاستخبارات الأميركية المركزية (سي آي إيه). ويجاهر روبيو باعتقاده أن “الصين تُعدّ عدوًاً للولايات المتحدة”، وسبق أن دعم، وهو عضو في مجلس الشيوخ، الاحتجاجات المنادية بالديمقراطية في هونغ كونغ؛ ما أدّى إلى فرض عقوبات صينية عليه تشمل منعه من السفر إليها.
وكان والتز قد دعا، وهو عضو في مجلس النواب، إلى مقاطعة الولايات المتحدة لدورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022 في بيجين؛ بناءً على قوله إنّ للصين دورًا في نشوء وباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد – 19)، وسوء معاملتها المستمر للمسلمين الأيغور. أما راتكليف، فقد سبق أن وصف الصين بأنها التهديد الأكبر لمصالح الولايات المتحدة وبقية العالم الحر
في المقابل، يخشى حلفاء الولايات المتحدة في منطقة المحيطَين، الهادئ والهندي، وتحديداً أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان، من تقلبات إدارة ترامب ومقاربتها للعلاقة مع الصين، كما يخشون أن تطالبهم الولايات المتحدة بمزيد من الإنفاق العسكري مقابل دعمها لهم. وقد سبق أن وضع ترامب، في دورته الرئاسية الأولى، شروطاً للدفاع عن تايوان، منها مطالبته إياها بمضاعفة إنفاقها الدفاعي أربع مرات.
ويُتوقع أن تقوم تايوان بعمليات شراء أسلحة كثيرة بعد تولي ترامب منصبه. وكانت تايبيه اشترت خلال رئاسة ترامب أسلحة أميركية بأكثر من 18 مليار دولار، مقارنة بـ 7.7 مليارات تحت إدارة بايدن.
العلاقة مع “الناتو”
يستمر ترامب في الإصرار على موقفه من جهة أنّ حلفاء الولايات المتحدة، خاصة في “الناتو”، استفادوا مجانًا على امتداد عقود من الضمانات الأمنية الأميركية، وأنّ عليهم أن يخصّصوا مزيداً من الأموال والجهد لضمان أمنهم والدفاع عن أنفسهم.
ومن المتوقّع أن يستمر في ضغوطه على أعضاء الحلف لتخصيص 2% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي. وفي محاولة لتقليل أيّ احتكاك مع إدارته، سارع الأمين العام لحلف الناتو، مارك روته، إلى توجيه رسالة تهنئة إلى ترامب بمناسبة إعادة انتخابه أشار فيها إلى أن “ثلثي أعضاء الحلف ينفقون الآن ما لا يقل عن 2% من ناتجهم المحلي الإجمالي على الدفاع، وأن الإنفاق والإنتاج الدفاعي يسيران في مسار متقدّم عبر التحالف”
مزاجية ترامب..
على الرغم من المؤشّرات المبنية على رؤية ترامب وترشيحاته للمناصب الرئيسة في إدارته، فإن مزاجيته، وتقلباته، وعدم امتلاكه منظومة أفكار منسجمة، كلّها عوامل ستجعل من الصعب التنبؤ بسياسته الخارجية؛
لذلك سيكون على العالم التعايش مع فترة من التقلب وعدم اليقين، قد يشوبها الكثير من العنف، وإن كان ترامب يؤكد أنه يريد أن ينهي الحروب القائمة، لا أن يبدأ حروباً جديد