نخبة بوست – جُن جنون المسؤولين الإسرائيليين، يوم الخميس، وسط حالة من هستيريا وردود فعل هابطة تهاجم المحكمة الجنائية الدولية وتتهمها بمعاداة السامية، شماعة إسرائيل الجاهزة لكل حدث، رداً على أوامر الاعتقال الصادرة عنها ضد رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووزير الأمن السابق يوآف غالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة.

صفعة كبيرة لإسرائيل برمتها تترتب عيلها عواقب كثيرة، وربما تطاول لاحقاً شخصيات أخرى، خاصة في جيش الاحتلال، في ظل جرائم الإبادة المستمرة في قطاع غزة. قرار لم يسبق أن طاول دولة تصور نفسها أنها “غربية وديمقراطية”، ما يجعله قراراً تاريخياً، بهذا المفهوم ومفاهيم أخرى. ومنذ اليوم، بات نتنياهو وغالانت معرّضين للاعتقال في 124 دولة هي الدول الأعضاء في المحكمة، ويتوجب عليهما التفكير ملياً قبل أي رحلة إلى الخارج، فالأمر لا يتعلق بوجهتهم فقط، وإنما بمطار الدولة التي قد تحط فيه أي طائرة تقلهما اضطرارياً، أو إن استقلا سفينة إسرائيلية. فهناك سناريوهات عدّة قد يحدث فيها الاعتقال، وتبقى لحظة الحقيقة والتنفيذ من قبل الدول الأعضاء في المحكمة هي الاختبار الحقيقي. ويؤثر القرار في جوانب منها أمنية، وسياسية، وتجارية، وصفقات الأسلحة، وغيرها.

وقبل صدور مذكرات الاعتقال، حاولت دولة الاحتلال الطعن في مصداقية المحكمة واختصاصها ونفي الجرائم المنسوبة إليها وإلى قادتها، رغم مشاهد التجويع، والقتل، والتدمير، والإبادة الجماعية في قطاع غزة، لكن محاولاتها فشلت. كما عملت دولة الاحتلال في الآونة الأخيرة على تشويه المحكمة، وزعمت أن المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان يستهدف المسؤولين الإسرائيليين في محاولة منه للتغطية على قضية الفضائح الجنسية التي تلاحقه. وتركت القاضية الرومانية جوليا موتوك المحكمة بشكل فجائي، ولا يُستبعد أن يكون ذلك بسبب ضغوطات إسرائيلية وفق بعض المراقبين. كما طعنت دولة الاحتلال في مدى حياد القاضية بيتي هولر التي عُينت حديثا في الدائرة التمهيدية التي تنظر في مذكرات اعتقال بحجة عملها سابقاً في مكتب المدّعي العام، وتسعى لإبعادها. أضف إلى ذلك تهديدات الولايات المتحدة للمحكمة في إطار دعم واشنطن الثابت لتل بيب.

“قرار تاريخي”

تؤكد الأستاذة المحاضرة في القانون الدولي هالة خوري بشارات، في حديث لـ”العربي الجديد”، أن قرار المحكمة تاريخي من عدة جوانب، ليس في ما يتعلق بإسرائيل والضحايا الفلسطينيين فحسب، ولكنه أيضاً “تاريخي من ناحية العدالة الجنائية الدولية، بخصوص جرائم دولية، وجرائم حرب ضد الإنسانية”. وتابعت: “لأول مرة يحدث هذا لدولة غربية تُعد ديمقراطية. القرار له عدة تبعات ويحمل عدة معان، منها رد الاعتبار للقانون الدولي الجنائي والمحاكم الدولية، في ظل الوضع الآني وشلل مجلس الأمن الدولي في اتخاذ قرار لوقف الحرب على غزة، ورأينا في الجلسة الأخيرة استخدام حق النقض (الفيتو) من قبل الولايات المتحدة”.

ولفتت خوري بشارات إلى أن “القرار يكتسب أهمية في ظل شلل المنظومة الدولية وفيه رد اعتبار للضحايا في غزة، ولوجود آلية محاسبة في وجه سياسة الإفلات من العقاب كما يحدث مع إسرائيل. وهذا يعني أن لا أحد فوق القانون الدولي”، موضحة أنه “في مسارات القانون الدولي للمحاسبة، هناك محكمة الجنائية الدولية وهناك محاكم محلية، بمعنى دول لها سيادة، ولكن تحاسب مجرمي الحرب، مثل بريطانيا وبلجيكا وهولندا ونيوزيلاندا. وهذا ما يُسمى سلطة القضاء الكوني، وسبق أن لاحقت قادة إسرائيليين بموجب دعاوى رُفعت فيها”.

ولفتت إلى “المسار الثالث من خلال إقامة محكمة عينية من قبل مجلس الأمن. ولكن مسار المحكمة الجنائية هو الأساسي اليوم. على مستوى القضية الفلسطينية، فهذا القرار فيه رد اعتبار للحقوق في ظل المس بالشعب الفلسطيني والإجحاف والجرائم الدولية… السياسة والقوة والمصالح هي المهيّمنة اليوم (في العالم وعلاقات الدول)، وبالتالي، قرار المحكمة يعني أنه لا يزال هنالك نظام مساءلة، في ظل وجود الفيتو الأميركي خاصة، والشلل في المنظومة الدولية، بحيث لا يستطيع مجلس الأمن مثلاً إيقاف الحرب”.

تطبيق الاعتقال وتبعات خطيرة على إسرائيل

من جهة أخرى، أشارت خوري بشارات إلى أن أوامر الاعتقال الدولية تقيّد حركة الأشخاص والمسؤولين الصادرة بحقهم، وفي هذه الحالة نتنياهو وغالانت، مضيفة أنها “ربما تشمل آخرين، ذلك أن الأوامر سرية بحيث لا يستطيعون السفر إلى حيث يريدون، ويتوجّب على الدول الأعضاء مساعدة المحكمة الجنائية في تطبيق القرار من خلال تنفيذ الاعتقالات وتسليمها المعتقلين، وهنا يكون الامتحان العملي”.

وأضافت خوري بشارات: “نتحدث عن أوامر اعتقال سرية، فالمحكمة لم تنشر الأوامر وإنما نشرت معلومات لماذا أصدرت الأوامر. وقد تكون لهذا تبعات على شخصيات أخرى مثل رئيس هيئة الأركان ومسؤولين إسرائيليين آخرين، خاصة في الجيش، بمعنى أنها قد تكون البداية فقط. وجميع الدول الغربية الأوروبية التي تصنّف نفسها أنها ليبرالية لديها قوانين محلية تمنعها من التعاون الاقتصادي مع دول عليها وصمة جنائية. لذلك، قرار اليوم الصادر ضد رئيس الحكومة ووزير الأمن الإسرائيليين يدمغ كل الكيان”.

وتساءلت كذلك: “إن كان هذا القرار سيجعل الاتحاد الأوروبي يعيد النظر في العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل على سبيل المثال، وبالتأكيد بيع السلاح لها، إذ تنص القوانين المحلية الأوروبية، بوضوح، على عدم التعامل مع أي دولة تنتهك حقوق الإنسان. عندما تصدر المحكمة الجنائية الدولية أمر اعتقال بحق رئيس حكومة دولة، فهذا له تبعات”.

تعزيز الدعوى في محكمة العدل الدولية

وذكرت أستاذة القانون الدولي أن أوامر الاعتقال قد تؤثر أيضاً في مسار القضية التي رفعتها دولة جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية، والتي تتهم فيها إسرائيل بارتكاب جرائم حرب وإبادة في قطاع غزة، قائلة “هذا القرار سيعزز مسألة تعمّد الإبادة والأدلة الخاصة بالدعوى في محكمة العدل الدولية. يساهم في ذلك أن محكمة الجنايات الدولية هي محكمة جنائية، بمعنى أنه لكي يدان شخص أمام هذه المحكمة، يجب أن تصل نسبة إثبات الأدلة إلى أكثر من 90% تجاه أحداث معيّنة. وبالتالي، الأطراف المشاركة في القضية الأخرى قد تقتبس من المحكمة الجنائية لكون القضية مرتبطة”.

نتنياهو لن يخطب في الأمم المتحدة وأمام إسرائيل مخرجان

من عواقب القرار أنه قد يمنع رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو من إلقاء أي خطاب في المستقبل في الأمم المتحدة، “ذلك أنها لن تدعو إلى المنصة شخصاً مطلوباً بقضايا جرائم دولية. هذ أمر لا يعقل ولا يمكن أن يحدث. وهذا يمس به بوصفه رئيس حكومة يريد أن يمثّل دولته”، وفقاً لأستاذة القانون هالة خوري بشارات. وأوضحت أن أمام إسرائيل مخرجين من القضية، لكنها تستبعد حدوثهما، “الأول أن تفتح إسرائيل تحقيقاً جنائياً بنفسها مع نتنياهو وغالانت في قضايا جرائم حرب، وتجويع وقتل مدنيين ومنع المساعدات الإنسانية، وما ورد في القضية الجنائية الدولية. أمّا الحل الآخر، فهو قرار إسرائيل أنها تريد إقامة دولة فلسطينية وسلام، على أن تكون هناك خطوات جادة وفورية، وفي هذه الحالة، يمكن أن يحيل مجلس الأمن الدولي طلباً إلى المحكمة الجنائية لتجميد المسار القضائي لوجود مسار سياسي للحل”.

درايفوس ومعاداة السامية

سارع المسؤولون الإسرائيليون إلى اتهام المحكمة الجنائية بمعاداة السامية. نفس المزاعم الجاهزة التي يرددونها في كل قضية مناهضة للأفعال الإسرائيلية، والتي جرى استخدامها قبل أيام، مثلاً، بعدما افتعل مشجعو فريق مكابي تل أبيب لكرة القدم مشاكل في أمستردام عبر إزالة الأعلام الفلسطينية وتأييد حرب الإبادة على غزة، ما دفع مجموعات للرد على الاعتداء. لكن إسرائيل فعلياً خسرت منذ بداية الحرب على غزة المعركة على الوعي حول العالم الذي وصلت إليه مشاهد المجازر وقتل الأبرياء رغم استثمارها مبالغ طائلة لتغيير السردية. وربما لن تجد الكثير ممن يرددون هذا من خلفها، باستثناء الولايات المتحدة والقليل غيرها.

وبلغت السخرية والانتهازية تشبيه نتنياهو قرار المحكمة بقضية ألفريد درايفوس، الضابط اليهودي في الجيش الفرنسي الذي حوكم عام 1894 بتهمة تسريب ونقل أسرار عسكرية عن الجيش الفرنسي إلى الجيش الألماني مقابل المال، وهي قضية يختلف سياقها كلياً. قد تعبّر ردود الفعل ومستواها الهابط من حيث المفردات المستخدمة والشتائم الصريحة عن النفسيات المأزومة، لكن أيضاً عن سقوط السردية الإسرائيلية، وصفع الغطرسة التي تهيمن على القادة الإسرائيليين، في الدولة التي ظنت حتى اليوم أنها فوق القانون الدولي رغم تآكل مكانتها.

“أخطر لحظة انحدار قانوني في تاريخ إسرائيل”

كتب إلياف ليبليخ، الأستاذ المحاضر في القانون الدولي في جامعة تل أبيب، في مقال نشره في صحيفة “هآرتس” بعد صدور القرار، إن إصدار أوامر الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت هو “أخطر لحظة انحدار قانوني في تاريخ إسرائيل. الآن، قادة دولة إسرائيل، التي كانت حتى وقت قريب تفخر بنظامها الديمقراطي ونظامها القضائي القوي والمستقل، يجدون أنفسهم في قائمة واحدة مع شخصيات مثل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس السوداني المعزول عمر البشير والعقيد الليبي الراحل معمّر القذافي”.

وأضاف أنه “من السهل الانجراف، كما يفعل قادة المعارضة فعلياً، وراء الغريزة لتوحيد الصفوف والصراخ معاداة للسامية (رداً على صدور الأوامر). لكن الحقيقة يجب أن تُقال: هذا تطور كان يمكن منعه، لو لم يُسيَّس موضوع المساعدات الإنسانية بشكل خطير منذ اللحظة الأولى للحرب، لإرضاء العناصر المتطرفة في الائتلاف (الحكومي). كان يمكن تجنّب ذلك، لو لم ينخرط وزراء الحكومة في التحريض المستمر ضد السكان المدنيين. كان يمكن تجنب ذلك، ربما، لو منعت حكومة إسرائيل المنظمات اليمينية المتطرفة من منع قوافل المساعدات الإنسانية. كان يمكن تجنّب ذلك، ربما، لو تصرف الجيش بيد قوية ضد انتهاكات القانون التي ينشرها الجنود على الشبكات بشكل متكر، بما في ذلك حرق المساعدات الإنسانية. كان يمكن تجنّب ذلك، ربما، لو أظهرت وسائل الإعلام الإسرائيلية ولو نقداً بسيطاً على طريقة إدارة الحرب. وقبل كل شيء، كان يمكن تجنّب ذلك لو كان للحرب هدف عسكري مستدام ورؤية سياسية لا تستند فقط إلى الحفاظ على الائتلاف وتعزيز خطط اليمين المتطرف”.

دعاوى في محاكم محلية ضد مسؤولين إسرائيليين

ليست هذه المرة الأولى التي تصدر فيها أوامر اعتقال ضد مسؤولين إسرائيليين، أو تُرفع دعاوى ضدهم بقضايا أخرى على مر سنوات ماضية، لكنها المرة الأولى التي يصدر فيها قرار عن الجنائية الدولية، وليس عن محاكم محلية. نشير من بين الحالات، على سبيل المثال لا الحصر، إلى دعوى ضد رئيس الشاباك الأسبق عامي أيالون في هولندا، رفعتها عائلة فلسطيني على خلفية تعذيبه والتسبب بضرر له. وصدر أمر باعتقاله، لكنه لم يصل إلى هولندا. ورُفعت دعوى ضد وزيرة الخارجية سابقاً تسيبي ليفني في بريطانيا وضد عدة ضباط في جيش الاحتلال في إسبانيا. كانت هناك دعوى أضرار ضد إيهود باراك في الولايات المتحدة عندما كان وزيراً للأمن. وعام 2005، وصل اللواء في الاحتياط دورون ألموغ، الذي سبق أن تولى قيادة المنطقة الجنوبية في جيش الاحتلال، إلى لندن، لكنه لم يغادر الطائرة وعاد أدراجه بعد إبلاغه بصدور أمر اعتقال بحقه بتهم جرائم حرب في فترة الانتفاضة.

وعام 2010، اضطر رئيس هيئة أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي في حينه غابي أشكنازي إلى تأجيل سفره إلى اجتماع نظرائه في جيوش حلف شمال الأطلسي (ناتو) بضع ساعات، خشية وجود أوامر اعتقال ضده. وفي يونيو/ حزيران الماضي، أشارت تقارير إسرائيلية إلى خشية نتنياهو الاعتقال لدى توجهه إلى واشنطن في حال اضطرار طائرته للهبوط في مطار دولة عضو في المحكمة الجنائية الدولية.

العربي الجديد
شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version