* لتعديل سلوك شخص واحد كي يمتنع عن القتل والاعتداء، يجب تغيير أفكار ومعتقدات ومشاعر مائة شخص يؤيدون هذا العمل ويؤمنون به، ويرونه ضرورة اجتماعية أو شرعية
* الدول والمجتمعات في إجازتها أو تقبّلها العنف الرمزي تجاه فئات أو حالات أو أفكار محددة، تؤسس للعنف والكراهية، وتنشئ هوية جامعة متماسكة في مواجهة الأعداء والأخطار، وتوحد بين غالبية المواطنين
* ثمة معتقدات قوية وراسخة تهيمن على الأجيال التي اكتسحها تدين وانتماءات خارجة عن إدارة وتنظيم مؤسسات الدولة والمجتمع، وهي شأن كل المعتقدات، بعيدة عن العقلانية
* تبدأ مواجهة التطرف بمدن ومجتمعات مستقلة، وتعليم حر وعقلاني، وأن تنسحب الدولة نهائياً من الشأن الديني والثقافي، وتترك الناس يفكرون ويتساءلون
نخبة بوست – كتب: إبراهيم الغرايبة
لأجل تعديل سلوك شخص واحد كي يمتنع عن القتل والاعتداء، يجب تغيير أفكار ومعتقدات ومشاعر مائة شخص يؤيدون هذا العمل ويؤمنون به، ويرونه ضرورة اجتماعية أو شرعية. ولتغيير أفكار مئة شخص وتحررهم من التطرف أو التخلف، يجب أن تعلّم ألف شخص على الأقل التفكير الحر المستقل والنقدي، والقدرة المنهجية على ملاحظة الصواب والمعقولية لدى الآخر واحتمال الخطأ لدى الذات. ولهذا الغرض، يجب أن تهيئ لعشرة آلاف شخص، على الأقل، الفرصة للمشاركة الاقتصادية والاجتماعية، والحصول على خدمات أساسية ملائمة ولائقة في العمل والتعليم والرعاية.
وعلى الرغم من صحة الردّ بالقول إن القتلة كانوا على الأغلب أشخاصاً أسوياء، وتلقوا تعليماً معقولاً وتنشئة تقليدية، فإنه صحيح أيضاً القول إن المؤشرات الإحصائية -والتي تنشرها مؤسسات دولية كالأمم المتحدة، أو دراسات نشرت في مجلات معتبرة- تقدّم دلالات مهمة وواقعية حول العلاقة بين متغيرات كالضغوط والسعادة، والنمو والازدهار، أو كما يقول جوهانس شوفير: إن مقولة الفقراء السعداء لا أساس لها من الصحة، على الأقل إحصائياً وفي استطلاعات الرأي العلمية.
الدول والمجتمعات في إجازتها أو تقبّلها العنف الرمزي تجاه فئات أو حالات أو أفكار محددة، تؤسس للعنف والكراهية، وتنشئ هوية جامعة متماسكة في مواجهة الأعداء والأخطار، وتوحد بين غالبية المواطنين، وتؤدي إلى الوحدة والانتماء والشعور بالأمن، والأهم أنها بالنسبة للسلطات السياسية تؤجل الاستحقاقات السياسية والاجتماعية في المشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية وتوزيع الموارد والإنفاق.
لكنها وعلى المدى الطويل المتراكم، أطلقت حالة عزلة وكراهية وشعورا بالرفض. وإن كانت هذه حالة قابلة للسيطرة في مرحلة ما قبل العولمة والمعلوماتية، فإنها اليوم مثل “صندوق باندورا”. ولنعترف ونواجه أنفسنا بأننا وسط كارثة لا تفيد في مواجهتها كل الأدوات والمؤسسات السابقة، وأنها تحتاج إلى ثقافة جديدة في العمل والإدارة والتنظيم والعلاقات، مختلفة عما قبل اختلافاً كبيراً وجذرياً. فكل ما لدى السلطات والمجتمعات من مؤسسات وادوات للعمل الإرشادي والتعبئة السياسية لم يعد يصلح للعمل.
ثمة معتقدات قوية وراسخة تهيمن على الأجيال التي اكتسحها تدين وانتماءات خارجة عن إدارة وتنظيم مؤسسات الدولة والمجتمع، وهي شأن كل المعتقدات، بعيدة عن العقلانية، بمقدار ما هي قوية وتزداد قوة وتأثيراً وانتشاراً كلما زادت غرابة ووحشية. ونضحك على أنفسنا إذا كنا نعتقد أن جرائم الكراهية حين يكون ضحاياها أبرياء أو لا علاقة لهم بالصراع، تحرك المشاعر ضدها أو تفقد التأييد؛ إذ لا ينفر منها سوى فئة هي ابتداء ترفض هذه الأفعال والأفكار والمعتقدات، لكنها تبعث على الإعجاب و”شفاء الصدور” لدى فئات واسعة وممتدة. أما الحوار العقلاني والردّ على الأفكار، فلا يستمع إليهما أحد سوى معارضين أو رافضين لهذه الاتجاهات الأيديولوجية أو الاجتماعية. ويظل على الدوام أضعف المعتقدات وأقلها تماسكاً وأكثرها تغيراً تلك التي تعتمد على الأسئلة العقلانية ومحاولة الإجابة عنها.
تبدأ مواجهة التطرف بمدن ومجتمعات مستقلة، وتعليم حر وعقلاني، وأن تنسحب الدولة نهائياً -بخيرها وشرها، واعتدالها وتطرفها، وتنويرها وظلاميتها- من الشأن الديني والثقافي، وتترك الناس يفكرون ويتساءلون، فيما تنشغل هي بتحسين المدارس والعيادات ومؤسسات الرعاية الاجتماعية، وتكفّ عن الاستئثار بالفرص والموارد. وليس غير ذلك يوقف القتل والكراهية.
المأزق في الاعتدال بالنسبة إلى السلطات السياسية والدينية، أنه لا يتحقق إلا في بيئة من التفكير الحرّ والنقدي. فلا يمكن تقديم الاعتدال بالوصاية على الناس وعقولهم وأفكارهم، ولا يمكن إجبار أحد على فكرة أو معتقد أو منعه من الإيمان بفكرة؛ لا يملك دعاة الاعتدال سوى الإقناع والثقة. وبالنسبة إلى المؤسسات السياسية والدينية، فإنها لا تحظى بالثقة والتأييد الديني والفكري، بل إن دعوة المؤسسات الدينية والسياسية الرسمية إلى فكرة هي وصفة ناجحة لإفشالها وتخلي الناس عنها.
إذا كان الاعتدال هو الصواب، فيفترض أن يتوصل إليه الناس بفكرهم الحرّ. وإذا اتبعوا باختيارهم الحر التطرف والتعصب والكراهية، فلا بدّ أن ثمة خطأ ما يجب البحث عنه ومعرفته؛ فقد يكون الاعتدال خطأ أو ضعيف الحجة وغير قادر على الإقناع. وبافتراض أن الاعتدال هو الصواب أو الأكثر صوابا أو الأقرب إلى الصواب والأفضل، فلا بدّ من الاعتراف بضعف حجة دعاة الاعتدال، ولعلهم في الواقع لا يدعون إلى الاعتدال.
إن تكريس الاعتدال والتنوير لن يكون خاصا بالشأن الديني في حالة تشكله من خلال فكر حر ونقدي (ليس من طريقة أخرى لتكريس الاعتدال والوعي). فالمواطن الذي يؤمن بالاعتدال من خلال تجربته الذاتية الفكرية والعقلية، سوف يكون بطبيعة الحال ناقدا للسياسات والاتجاهات الحكومية والمجتمعية والشركاتية، ولن يؤيدها تلقائيا. وستكون التفسيرات الحكومية والمؤيدة لها في وسائل الإعلام موضع نقد ومراجعة، وسيكون سلوكه السياسي والانتخابي والاستهلاكي أيضا مزعجا للنخب السياسية والاقتصادية. ففي مجتمع تغلب عليه العقلانية والفكر الناقد، ستتغير كل اتجاهات التسويق والإعلان، كما السياسة والانتخابات، ولا يمر قرار أو اتجاه حكومي أو شركاتي (تسلط الشركات على الناس اليوم أشد قسوة وبشاعة من تسلط الحكومات) إلا من خلال أدوات وأفكار عقلانية ونقدية.
هكذا، فرغم بداهة القول إن المناعة الفكرية تحمي الأفراد والمجتمعات من التطرف والتعصب والكراهية، فإن ذلك يقتضي بطبيعة الحال تشكلات فكرية شاملة لا تقتصر على الحماية من التطرف، وإنما تعني أفرادا فاعلين ومستقلين تصعب قيادتهم أو اكتساب ثقتهم من غير مشاركة عامة.