نخبة بوست – محرر الشؤون المحلية
في مثل هذا اليوم من كل عام، يستذكر الأردنيون رجلاً ترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الوطن: الشهيد وصفي التل؛ شخصية جمعت بين الفكر القيادي، والإخلاص للأرض، والرؤية الواضحة لبناء الأردن الحديث.
تحل الذكرى الثالثة والخمسون لاستشهاده لتُعيد إلى الأذهان مسيرة قائد لم يكن مجرد رئيس وزراء، بل كان رمزًا وطنيًا حمل هموم الأمة، ودافع عن قضاياها.
وفي هذه المناسبة، نقف وقفة تأملٍ في حياة التل، ومواقفه التي رسخت قيم الانتماء والعدالة، تاركًا إرثًا وطنيًا ما زال حاضرًا في وجدان الأردنيين، ومسيرتهم نحو مستقبل أفضل.
وفي الذكرى الثالثة والخمسين لاستشهاده؛ تقدّم “نخبة بوست” معلومات تنشر لأول مرة تتيح للباحثين فرصة التعمّق في قراءة شخصية التل، وفهم الروح القيادية التي تميّز بها، ودوره البارز في بناء الأردن الحديث.
التل .. رجل دولة أخلص في ولائه لقيادته
وصفي التل هو، أولًا، مقاتل شديد البأس والعزم في الدفاع عن الأردن، وفي الدفاع عن فلسطين، وهو مثقف متميز نذر ثقافته وفكره لخدمة بلاده ونهضتها، ورجل دولة أخلص في ولائه لقيادته، وترجم ولاءه وانتماءه عملًا وجهدًا وأداءً متصلًا لخدمة الأردن الغالي ونهضته وتقدّمه.
وهذه مسألة تتعدّى الجانب الشكلي إلى ما هو أبعد وأعمق دلالة؛ فالجيل السابق من رؤساء الحكومات كان من رجالات التأسيس، المنتمين إلى تجارب إداريّة مهمّة وثريّة في الإدارة العربيّة، وقد قاموا بدورهم على نحو متميّز في إدارة البلد.
تجديد الطبقة السياسة كما أردها الملك الراحل الحسين
أما المرحلة التالية، التي أرادها الملك الحسين، رحمه الله، فكانت تقوم على تجديد الطبقة السياسيّة، وإتاحة المجال أمام الجيل الجديد المتعلّم من المسيّسين الأردنيين لقيادة المرحلة المقبلة وبناء دولة عصريّة قادرة على الاستجابة للتحدّيات وردّ التهديدات.
من هنا بدأ الرئيس التل طريقه، وقد حمل معه الى رئاسة الوزراء تجربة ملفتة في العمل العام.
عسكريا ومقاتلا؛ إعلاميا وكاتبا ..
صحيح أن التل، الذي لم يكن قد تجاوز الثانية والأربعين من عمره وقتها، لم يسبق له أن شغل أي موقع وزاري في أي حكومة سابقة، ولكنه كان قد راكم خبرة من نوع آخر: عسكريًا ومقاتلًا في الجيش البريطاني، ومن ثمّ في جيش الإنقاذ في الأربعينيات، وسياسيًا في المكتب العربي في القدس ولندن، ودبلوماسيًا في ألمانيا وإيران والعراق، وإعلاميًا ككاتب مقال في صحيفة “الرأي” التي أصدرها القوميون العرب مطلع الخمسينيات، ومن ثمّ مديرا للإذاعة الأردنيّة؛ والأهم، تجربة الرئيس التل في العمل إلى جوار الملك الحسين رئيسًا للتشريفات الملكيّة.”
هذا الرصيد من الخبرات المتنوّعة، إضافة إلى السِمات الشخصيّة، هو ما صاغ ملامح حقبة وصفي التل كرئيس للوزراء، وهي حقبة امتازت بتحقيق إنجازات نوعيّة، وامتلاك المقدرة على مجابهة المنعطفات الخطرة.
مُدافع مغوار عن وطنه وقضيته ..
بدأت حقبة التل بمواجهة إعلامية مع الناصريّة؛ خصوصًا وأن حكومته الأولى تلت بشهور فقط حادثة استشهاد الرئيس هزاع المجالي، وحملات التشكيك والتحريض على الأردن، ليس فقط كموقف ودور، ولكن كوجود من حيث المبدأ وككيان سياسي ووطني.
وكان السلاح القويّ في هذه الحملة هو الإعلام؛ لذلك، انتبه الرئيس التل إلى أهميّة الإعلام ودوره، وأدرك أن الأغنية بالذات كانت تلعب دورًا أساسيًّا في حمل الخطاب المعادي، وتجييش الجماهير لصالحه. وبهذا الصدد، استكمل التل جهود تعزيز وجود إذاعة أردنيّة قويّة ومؤثرة.
واعيا لأهمية الاغنية الأردنية ودورها السياسي ..
وكان الوعي لأهميّة الأغنية ودورها السياسي وراء اهتمام التل بهذا الملف، والتأسيس للون أردني في الفن والغناء، وكانت النتائج مذهلة بحق؛ فالأغنية الأردنية لم تنجح محليًا فحسب، ولكنها انتشرت عربيًا، وصارت لونًا قائمًا ومستقلا، يُقدِم الفنانون العرب على غنائه فيحقق لهم الشهرة والنجاح.
يروي مؤرخ الأردن، الأستاذ المرحوم سليمان الموسى، عن الشهيد وصفي التل أنه قال، ذات يوم: “عبده موسى أهم عندي من فرانك سيناترا” (المغني الأمريكي الأشهر آنذاك)؛ عبده موسى يغني للوطن، ويتجاوب مع إحساس المواطن، وفي نهاية المطاف يؤدي فنه إلى التقريب بين المواطن وبلاده وأهل بلاده.
التل .. الكاتب والصحفي
وفي مرحلة لاحقة، أراد الرئيس التل أن يكون للدولة صحيفتها الناطقة بلسانها والحاملة لخطابها؛ فكان تأسيس صحيفة “الرأي”‘ التي شغلت لدى تأسيسها حيّزًا كبيرًا من اهتمام وجهد رئيس الوزراء.
تبنى النهج الاقتصادي الملائم للأردن وخصوصيّته
وفي الجانب الاقتصادي الاجتماعي، اختارت الدولة الأردنيّة في تلك الحقبة النهج الاقتصادي الملائم للأردن وخصوصيّته ومتطلباته وسط محيط تسوده النظم الاشتراكيّة، فكان أن ظهرت ملامح “الدولة الاجتماعية” في الأردن، ليأخذ اقتصادُه الطابعَ الاجتماعي في مقاربة متوازنة بين الاشتراكية والرأسمالية.
ومن هنا، بدأت مؤسّسات القطاع العام بالظهور اقتصاديًا، ولكن مع دور فاعل وتحفيز لدور القطاع الخاص، في سبيل إقامة نظام اقتصادي مختلط، تقوم فيه الدولة بوظائفها لخدمة قاعدتها الاجتماعيّة، وقيادة التنمية الوطنيّة الناشئة آنذاك، بما يكفل تحقيق العدالة الاجتماعيّة، وضمان التوازن بين الطبقات، دون أي إقصاء لدور القطاع الخاص ومكتسباته.
تحقيق انجازات نوعية رغم التحديات
بقراءة لمنجزات حكومات وصفي التل التي سبقت هزيمة الـ67، والتي وردت الإشارة إليها في سلسلة من خطب العرش السامية، نلمس حجم ونوعيّة الإنجاز في بناء الدولة الأردنيّة العصريّة برغم التحدّيات وشحّ الموارد.
ومن هذه الإنجازات، نستعرض ضمن التصميم المرفق أدناه – على سبيل الذكر لا الحصر – أبرز الانجازات التي تحققت خلال حقبة التل:
اتخذ أهم خطوات تجديد الحياة السياسية في الأردن .. وهي ؟
بيد أن واحدة من أهمّ الخطوات التي انعكست على الأداء العام، وأسهمت في تجديد الحياة السياسيّة، كانت إثر صدور قانون العفو العام 1965، عندما أخذت حكومة التل بدمج المعارضين السابقين والمسيّسين تحديدًا بالوظائف العامّة، ليتولوا أعلى المواقع الحكوميّة وأكثرها حساسيّة.
وهؤلاء هم من خاضوا لاحقًا معركة الدفاع عن البلد بشجاعة ومبادرة، واستفادت كلّ المؤسّسات التي توزعوا عليها من أفكارهم وتنوّع اتجاهاتهم وخبراتهم. ونشأ في الإدارة الأردنيّة جهاز بيروقراطي مسيّس، قوي وفاعل، قاد المرحلة التالية نحو المزيد من الإنجاز، وتجلّت معه قوّة الدولة وبرزت قِيَمُها العليا، وأصبحت الإدارة الأردنيّة، بوظائفها العليا، مسيّسة وقادرة على تمثّل المعاني الوطنيّة.
بماذا أسر وصفي التل لزوجته؟
الحديث عن وصفي التل وحقبته في الحكم يستدعي، بالضرورة، حديثًا مفصّلاً عن الزراعة ومكانتها المتقدّمة في فكر وجهد وتخطيط الرئيس التلّ؛ ولا شك أن دلائل هذا الاهتمام ما تزال ماثلة للعيان، على شكل غابات وأحراج أشرف التل بنفسه على زراعتها والاعتناء بها.
في عهد وزارته الأولى، بدأ العمل بشق الطرق القرويّة. وخصّصت الوزارة مبلغًا ضخماً بمقاييس تلك الأيام لهذه الغاية. كان يشعر أن القرية الأردنيّة بحاجة للكثير من الجهد والعمل والاهتمام الحكومي.؛لذلك، بدأ حكومته الثانية بإنشاء وزارة للشؤون البلديّة والقروية لكي تتخصّص بتقديم الخدمات والدعم للريف، وكانت النتيجة شق 650 كيلومترًا من الطرق القرويّة، بالإضافة إلى دعم سكان القرى بالخدمات الطبيّة؛ فانتشرت العيادات الطبيّة في كل قرية يزيد عدد سكانها عن 300 شخص.
كان هاجس التل متجهاً نحو ضرورة دعم الريف، وبالأساس: حمايته. فلا زراعة حقيقيّة دون مجتمعات زراعيّة. كانت نظرته إلى الزراعة على أساس أنها مسألة حياة أو موت؛ مسألة استراتيجيّة، سياديّة، يرتبط بها تماماً مفهوم الأمن الغذائي، بالإضافة إلى الأمن البيئي والاجتماعي”.
53 عاما على استشهاده ومازال راسخا في الذكرة الأردنية ..
حقبة الرئيس التل في الحكم تستحق الدراسة، والمزيد من الدراسة. وبين أيدينا اليوم مواد مرجعيّة كافية مما كتبه مؤرخون ثقات، أو من شهادات معاصرين فاعلين لتلك الحقبة، أو من خلال ما تركه الشهيد التل نفسه من كتابات كثيرة ومتنوّعة وملاحظات مهمّة، موجودة ومتوفرة؛ تصلح كلها للقراءة، وتحقق الفهم المطلوب لحقبة رئيس وزراء ما زال اسمه حاضراً في الحياة السياسيّة الأردنيّة رغم مرور 53 عامًا على استشهاده.
كان التل صادقًا في وفائه وانتمائه، لا يعرف المداهنة ولا التجمّل ولا التأجيل، ومقاتلًا صلبًا في الدفاع عن معتقداته وثوابته، وصاحب رؤية منهجيّة متماسكة لإدارة الدولة وفق الخصوصيّات والمصالح الوطنيّة العليا.