نخبة بوست – كتب: هزاع البراري (الكاتب والمحلل السياسي)

جاء سقوط الأسد ونظامه سريعًا مدويًا بعد تأجيل هش لسنوات، ولكن النظام لا شك كان يفضل المغادرة ضمن ترتيبات محلية وضمانات عالمية تخفف بقدر معين ما يمكن أن يحدث.

الأوضاع في دمشق تسير بسلاسة لافتة للانتباه، مع رغبة لدى الثوار أن لا يعني سقوط النظام سقوط الدولة، وهذا ينم عن نضج واضح وتخطيط مبيت، بحيث تبقى المؤسسات تقوم بمهامها ولو تحت إدارة الإدارات السابقة لحين تحقيق عملية التسليم والاستلام، وهي أمور تصب في مصلحة الثوار والدولة معًا.

هزاع البراري يكتب: سوريا وسيناريوهات ما بعد سقوط النظام
الكاتب والمحلل السياسي هزاع البراري

الأوضاع في دمشق تسير بسلاسة لافتة للانتباه، مع رغبة لدى الثوار أن لا يعني سقوط النظام سقوط الدولة، وهذا ينم عن نضج واضح وتخطيط مبيت، بحيث تبقى المؤسسات تقوم بمهامها

يتضح من سير الأحداث وحرفيتها في الهجوم وإدامة الزخم ومن ثم إدارة المناطق المسيطر عليها مدنيًا، أن فترة الإعداد والتأهيل كانت طويلة ودقيقة، وأن الخطة شاملة وليست محدودة الأهداف. وهذا يؤكد أيضًا أن مطبخًا دوليًا كان فاعلًا خلال السنوات الماضية، وأن عمليات إنهاك الجيش السوري كانت طويلة المدى، مع تجفيف موارده ومنابع دعمه، وإضعاف الدولة اقتصاديًا وسياسيًا، وفقدانها للحاضنة الشعبية، وإشغال الحلفاء بجبهات وقضايا أخرى، مما جعل من اقتناص اللحظة التاريخية أمرًا لا مناص منه.

يتضح من سير الأحداث وحرفيتها في الهجوم وإدامة الزخم ومن ثم إدارة المناطق المسيطر عليها مدنيًا، أن فترة الإعداد والتأهيل كانت طويلة ودقيقة، وأن الخطة شاملة وليست محدودة الأهداف

بالطبع؛ هناك تفرعات كثيرة لأسباب هذا السقوط السينمائي السريع، منها ضعف التسليح، والأسلحة القديمة التي تنقصها قطع الغيار، وبالتالي تراجع عمليات الصيانة، بالإضافة إلى الرواتب الضعيفة جدًا التي لا تكفي لأبسط سبل الحياة، فضلًا عن مظاهر الفساد والظلم، مما جعل الواقع الماثل تربة خصبة للانقضاض بهذا الشكل الذي أدهش الجميع.

لكن الأصعب ليس ما يحدث الآن، بل ما سيحدث بعد أن سقط النظام. هل سيُسمح لهيئة تحرير الشام وحلفائها، إن دخلت دمشق، أن تفوز بغنيمة الحكم؟ وإن حدث ذلك ضمن ترتيب مؤقت من خلال مجلس أو هيئة حكم تعمل على صياغة تفاصيل المرحلة القادمة من بناء دستور جديد وعقد اجتماعي جديد ينتج عنه انتخابات برلمانية ورئاسية، فماذا سيكون حال قوات قسد ومن خلفها الأكراد؟ وما حال السويداء وبنيتها العشائرية الطائفية؟

والسؤال الأصعب يتعلق بمناطق العلويين في الشمال الغربي، وفيها مدن كبرى مثل اللاذقية وطرطوس، والأهم القواعد الروسية الاستراتيجية بالنسبة للروس؛ التركيبة تبدو بالغة الصعوبة والتعقيد، لأن روسيا قد تخلت عن الأسد ونظامه، لكنها لن تتخلى عن نفوذها وقواعدها في سوريا إلا مقابل صفقة كبيرة تدفع ثمنها أوكرانيا.

السؤال الأصعب يتعلق بمناطق العلويين في الشمال الغربي، وفيها مدن كبرى مثل اللاذقية وطرطوس، والأهم القواعد الروسية الاستراتيجية بالنسبة للروس

إن تفكيك النظام السابق وبناء نظام جديد يبسط نفوذه المركزي على جميع الأراضي السورية، كما كان الوضع قبل العام 2011، يبدو شبه مستحيل حاليًا. كما أن ما يروج له بين فينة وأخرى من تقسيم سوريا عرقيًا وإثنيًا إلى دويلات لا يقل عددها عن ثلاث دول غير عملي ولا ينتج دولًا قادرة على العيش.

وهذا سيجعل من مسامات الحرب الأهلية أكثر توسعًا واستجابة لوضع تشطيري سافر. وهنا يبرز النموذج العراقي بشكل أكثر فعالية ونجاعة في الحالة السورية، لأن فرضية بناء نظام سوري مركزي قوي في دمشق قادر على صهر جميع مكونات الدولة السورية التاريخية في دولة واحدة شديدة التماسك واللحمة ضمن نظام ديمقراطي حقيقي، تبدو فرضية غير منطقية. ولا أعتقد أن هذا ما يسعى إليه الغرب وكذلك تركيا وإسرائيل، لوجود مصالح دولية وإقليمية لا تتحقق في حال تم بناء سوريا جديدة قوية وموحدة، وأيضًا ليس في مصلحتهم وجود دويلات هشة ومتناحرة.

إذن، ما هو السيناريو الأقرب لتحقيق المعادلة المعقدة، والتي تضمن أيضًا إبعاد سوريا عن محور إيران واندماجها في شرق أوسط جديد يروج له الغرب منذ عقدين على الأقل؟

لا أعتقد أنه سيسمح لهيئة تحرير الشام ومن معها أن تتحول إلى نظام حكم، فلقد تم توظيفهم كأداة في إحداث التغيير، ولن يكونوا هم التغيير المرغوب ولن يجنوا ثماره وحدهم. لذلك، هناك ثمة ما يُطبخ في الخفاء. فنظرًا للموقع الجيوسياسي الحساس لسوريا، لن يسمح لها أن تكون تحت حكم جماعات الإسلام السياسي/الجهادي، حتى وإن تغيرت لهجتهم وتصرفاتهم على الأرض.

نظرًا للموقع الجيوسياسي الحساس لسوريا، لن يسمح لها أن تكون تحت حكم جماعات الإسلام السياسي/الجهادي، حتى وإن تغيرت لهجتهم وتصرفاتهم على الأرض

وهنا يظهر سيناريو الاتحاد الفيدرالي باعتباره أنجع السيناريوهات التي تحافظ على سوريا السياسية دون تقسيمها إلى دول أصغر، وفي الوقت ذاته يحول دون قيام نظام مركزي قوي في دمشق. تبدو تجربة كردستان العراق نموذجًا يمكن استعارته بشكل أكثر توسعًا، فتُقسم سوريا إلى أقاليم ذات حكومات محلية شبه مستقلة تشمل حكومة للأكراد، وأخرى للدروز، وثالثة للعلويين.

وفي حين تشكل حلب وحماة وحمص ودمشق بؤرة الدولة ذات الغالبية السنية، تبقى دمشق عاصمة الدولة السياسية ضمن هذا الاتحاد الفيدرالي.

ربما هذا السيناريو هو الأقرب في ظل تعقيدات الحالة السورية الراهنة وتضارب المصالح الدولية والإقليمية والانقسامات الإثنية والعرقية التي نمت وترعرت منذ عام 2011. لكن هذا كله يبقى رهين الأحداث في القادم القريب.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version