نخبة بوست –  فرح أبو عياده (معهد السياسة والمجتمع)

سقط نظام بشار الأسد على يد المعارضة السورية فجر الأحد الموافق 08 ديسمبر 2024، الحدث الذي يشكل لحظة محورية وانتقالية في الصراع السوري، تحديدًا بعدما بدت  مظاهر استمرار جمود الواقع السياسي والأمني-العسكري في سوريا منذ عام 2020، وعلى المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وضمن عملية “ردع العدوان”، والتي انطلقت بهدف رفع عدوان النظام السوري والفصائل المدعومة إيرانيًا عن مناطق المعارضة، من قبل “تحالف” لفصائل سورية معارضة مسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، والتي تعتبر فاعلًا رئيسًا في المشهد السوري، ويأتي ذلك في ضوء سياق يشهد متغيرات إقليمية، لعل من أبرزها استمرار الحرب على غزة لما يزيد عن عام، وتداعيات الحرب  الإسرائيلية على حزب الله في جنوب لبنان؛ يحاول المقال التالي تقديم قراءة في المتغيرات التي توصف بالمراجعات، والتي حدثت في هيئة تحرير الشام عبر سنوات، والتي ظهرت في سياق الأحداث الأخيرة.

هيئة تحرير الشام؛ ولادة وأزمة

انشق تنظيم “جبهة النصرة” بقيادة “أبو محمد الجولاني” عن تنظيم القاعدة الأم عام 2016، بعد مرور “النصرة” بأزمات مع “القاعدة” نتيجة لتضارب في الأهداف واختلاف النهج الذي تسير عليه كل منهما في ذلك الوقت، ومن ثم أُعلن عن تشكل هيئة تحرير الشام عام 2017 بعد اندماجها مع فصائل سورية معارضة أخرى، جمعها حينها أيدولوجية إسلامية سلفية، وسعت لبناء مشروع دولة في سوريا، مع تباين عن توجهات نهج القاعدة المتمثل في “الجهاد العالمي”، بذلك اتضح أن كل منهما يسيران في طريقين لا يلتقيان، على الأقل بما يتعلق بالقضية السورية، وهو الأمر الذي تم التعبير عنه بخلافات وانشقاقات داخلية حدثت في الهيئة، إلا أن ذلك لم يغير من استمرار تصنيفها ضمن قوائم التنظيمات الإرهابية لدول عديدة أبرزها الولايات المتحدة الأميركية وتركيا[1].

على أية حال، استمرت هيئة تحرير الشام بحكم الأمر الواقع، فمنذ تموضعها في إدلب انتهجت أنموذجًا خاصًا بها في الإدارة المحلية والمدنية، حيث استوعبت ما يزيد عن 3 ملايين من النازحين والمهجرين في حدود إدلب، المدينة التي تعتبر مركز ثقل الهيئة، حيث لعبت أدوارًا خدمية أبرزها تقديمها للخدمات الأساسية كالتعليم والصحة والكهرباء والماء، والتي كانت -من حيث المفارقة- مفقودة في مناطق سيطرة النظام.

إلا أن الهيئة واجهت أزمة داخلية منذ 25 فبراير 2024، وحراك شعبي يحمل مطالبات سياسية عديدة، وصل سقفها لإسقاط قائد الهيئة “أبو محمد الجولاني”، وتمثلت المطالب في معالجة ملف العمالة الأجنبية وقضايا المعتقلين في سجون الهيئة، والتي استمرت بوتيرة متسارعة وبقضايا مختلفة، حيث يشير التتبع أن الهيئة استجابت وتعاطت مع عدد من تلك المطالب الشعبية.

خطاب يتغير، وواقع جديد

في ظل أزمة داخلية شهدتها هيئة تحرير الشام واستمرت لعدة أشهر، تناوله مقال لكاتبة هذه السطور، وقبل انطلاق عملية ردع العدوان[2]؛ تطرق إلى أنباء أشارت لوجود توسعات انعكست جغرافيًا، حيث امتدت إلى الجنوب في درعا، وطرح المقال تساؤلات عن أسباب وجود هذه التوجهات لدى الهيئة، وكان من ضمن التفسيرات المحتملة حينها؛ امتلاك الهيئة لخطة تعمل من خلالها على تطويق النظام من الشمال والجنوب، إما دفعًا به للعمل نحو حل سياسي، أو التحرك لإسقاطه.

أما مؤخرًا، فيشير الواقع إلى أن الهيئة قد نجحت في توحيد الجهود، بين صفوف أبرز الفصائل المعارضة –حتى اللحظة-، بغية إسقاط نظام الأسد ضمن أهداف عملية “ردع العدوان”، والتي انطلقت في 27 نوفمبر 2024، ومن ثم تم رفع سقف هدفها ليصبح إسقاط النظام[3]، وهو ما  يعكس -بشكل أولي- تطورات في عقلية المعارضة السورية بكافة أطيافها الفكرية والأيديولوجية، ومع إقرارها بالتناقضات فيما بينها؛ إلا أن التوصل لتجاوز تلك التناقضات أو إصلاحها بين الفصائل يبقى موضع اختبار، خاصة بحكم الواقع الجديد الذي أفرزه سقوط النظام.

في ذات الإطار؛ أظهرت مقابلة مع أحمد الشرع الملقب بـ “أبو محمد الجولاني” سابقًا، عبر الـ (CNN)، ما يمكن فهمها على أنها تحولات فكرية وسياسية عميقة لديه، والتي قد تمتد لتعتبر تحولات أيدولوجية على مستوى الهيئة ككل، فالجولاني المعروف بدرجة عالية من البراغماتية في سلوكه السياسي، ظهرت ضمن مراحل وديناميكيات سياسية وأمنية عسكرية معقدة ومركبة عاشها سابقًا. حيث يُلاحظ ذلك منذ السنوات الأولى لولادة الهيئة، إذ قامت بالعديد من الخطوات لإعادة إنتاج نفسها وتغيير النظرة الخارجية نحوها، لتكون مقبولة دوليًا، ولإزالة التصنيف الإرهابي عنها؛ وبصرف النظر عن قدرتها على تحقيق ذلك من عدمه، يبقى النموذج الذي قدمته هيئة تحرير الشام، والذي عملت على بنائه خلال السنوات الماضية ضمن منطقة سيطرتها في إدلب، مقبولًا شعبيًا -على أقل تقدير-، وربما قد يشهد تطويرات تبعًا للأحداث الأخيرة.

يتجسد التغيير اللافت لهيئة تحرير الشام، في الخطاب السياسي الموجه عبر قائدها “أحمد الشرع”؛ لكافة المكونات السورية محليًا، من طوائف وأقليات ومكونات إثنية، عكس خلاله بوادر احترام لتلك المكونات و عمل على طمأنتها[4]، حيث تحدث عن حالة من الانتقال إلى واقع لا يمكن أن يُلغي فيه الآخر، ويعكس ضرورة وجود حوار وطني داخلي بمعزل عن التدخلات الخارجية، فيما كان الخطاب الذي وجهته “غرفة عمليات الجنوب” وإدارة الشؤون السياسية للمناطق المحررة، بالإضافة لخطاب الجولاني ذاته؛  لدول الجوار ومنها الأردن والعراق، وحتى إيران، انعكاسًا لما يمكن وصفه بنضوج وعي سياسي يَحترم كيانات الدول الأخرى ويطمئنها.

يبدو أن هيئة تحرير الشام، عبر خطاب “أحمد الشرع”، تُقدم منظورًا لدولة سورية جديدة، حيث يشير لدولة مؤسسات مدنية تُحكم بالقانون، وتتكامل بوجود كيان عسكري يحقق الاستقرار والأمن، يستند ذلك لقوله: “نحن نتحدث عن مشروع أكبر – نتحدث عن بناء سوريا.. هيئة تحرير الشام مجرد جزء من هذا الحوار، وقد تتفكك في أي وقت، إنها ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لأداء مهمة: مواجهة هذا النظام”[5].

 يأتي هذا الحديث في  سياق صعوبات اتخذت شكل مخاضٍ اجتماعي، واقتصادي، وسياسي، عانى منه السوريون منذ اندلاع الأزمة، ويؤيد ذلك؛ تصريحات عن تفكير الهيئة بحل صيغتها الحالية، والعمل على دمج كامل للهياكل المدنية والعسكرية[6]، وهذا الخطاب يُظهر مرحلة متقدمة من خطاب أقدم لقيادي في هيئة تحرير الشام هو عبد الرحيم عطون -قبل سنوات-، وإشارته لوجود رغبة لدى الهيئة بأن تكون نموذجًا لتنظيم يمكن وصفه بـ”الجهاد الوطني”، يُدعم من ذلك؛ تخلي قائد الهيئة عن ألقاب جرت العادة أن يطلقها الجهاديون على أنفسهم،  والانتقال إلى دولة تبدو تصورات معالمها واضحة عند “الشرع”، حيث تحدث عنها بشكل عام في ذات المقابلة، وهو ما يبقى موضعًا للاختبار.

بالمحصلة، فعلى الرغم من أن ملامح ما تقدم لا تزال غير واضحة بشكل كامل، إلا أن سوريا تقف اليوم على أعتاب مرحلة جديدة ، ويترقب العالم اللحظة التالية لتداعيات سقوط النظام السوري السابق، وتتباين الآراء حول ما يجري الآن في سوريا، فعلى الرغم من وجود قلق وتوترات نتيجة لخوض العالم تجارب سابقة سلبية تبعًا لثورات الربيع العربي، وما أفرزته من تطورات حينها، كظهور التنظيميات الجهادية الإرهابية كـ”داعش”، إلا أن المعادلة اليوم قد تختلف عما كانت عليه في السابق، خاصة في ظل حديث هيئة تحرير الشام عن استعدادها للتفاهم مع المكونات الداخلية، وللانفتاح على الساحة الإقليمية والدولية، وهو ما قد تكشف عنه المرحلة القادمة.

شاركها.

نسعى في "نخبة بوست" إلى خدمة النخب السياسية والإقتصادية والإجتماعية من خلال صحافة الدراسات والتحليل والاستقصاء والقصص الصحفية وأخذ آراء الخبراء والمختصين، ونسعى إلى تقديم منبر لأصحاب الرأي من الخبراء والدارسين والباحثين بمهنية وموضوعية وعمق يناسب النخب الوطنية ويخدم الإعلام الوطني الذي نريد.

Exit mobile version