* استشاري نفسي: شخصية الجولاني أظهرت العديد من السمات والتناقضات التي تعكس مزيجاً من المكر السياسي والذكاء الاجتماعي، مع ميل واضح للتلاعب والهيمنة
* أبو هنية: الجولاني مر بمراحل مفصلية وتغيرات جوهرية في خطابه السياسي؛ لذا تخلى تدريجيًا عن أيديولوجية “القاعدة” وركز على إسقاط النظام السوري
نخبة بوست – شذى العودات، أروى أبو رمان
تزامنت التطورات المتسارعة في سوريا خلال الأيام الأخيرة مع بروز اسم “أبو محمد الجولاني” بشكل لافت على الساحتين العربية والدولية؛ فقد تكرر ذكره كزعيم لفصائل المعارضة المسلحة المعروفة باسم “هيئة تحرير الشام”، مما أعاد تسليط الضوء على دوره وتأثيره في المشهد السوري.
وبالعودة إلى أحداث الربيع العربي؛ كان الجولاني من أكثر الشخصيات إثارةً للجدل عند اندلاع الأزمة السورية عام 2011، حيث برز في البداية كقائد لتنظيم “جبهة النصرة”، أحد أبرز الفصائل المسلحة التي شكّلت جزءًا من المعادلة العسكرية والسياسية في البلاد.
لكن؛ سرعان ما أصبح لاعبًا رئيسيًا، متنقلًا بين أدوار متباينة، بدأت بإدراجه على قوائم الإرهاب الدولية، مرورًا بانقلابه على “داعش” وتشكيله “هيئة تحرير الشام”، وصولًا إلى ظهوره الأخير أمس في المسجد الأموي، حيث أصدر تعليمات صارمة بالحفاظ على الدولة وممتلكاتها، في خطوة تهدف إلى إعادة رسم صورته كـ “قائد” محلي يسعى للتقارب مع الشعب والمكونات السياسية السورية.
هذا التحول أثار موجة من التساؤلات حول دوافع الجولاني الحقيقية، ومدى تأثير خطواته على مستقبل سوريا؛ كما فتح الباب على مصراعيه أمام جدل واسع حول علاقاته الإقليمية والدولية، واستراتيجيته في التعاطي مع القوى المحيطة بالبلاد !؟
وبالعودة للوراء قليلاُ؛ تحديداً في بداية الشهر الحالي، شهدت سوريا تطورات ميدانية وسياسية متسارعة، حيث سيطرت فصائل المعارضة المسلحة، بقيادة “هيئة تحرير الشام”، على مدن استراتيجية مثل حلب، حماة، وحمص، وصولًا إلى دمشق؛ إذ أدى هذا التقدم إلى انهيار دفاعات القوات الحكومية ومغادرة الرئيس بشار الأسد إلى روسيا؛ حسب التصريحات الروسية.
وكانت قيادة الجيش السوري قد أعلنت الأمس انتهاء حكم الأسد، مما أثار ردود فعل دولية واسعة، شملت دعوات لتهدئة الأوضاع واحترام الاتفاقيات الدولية.
وسط هذه الأحداث، برز دور الجولاني في محاولة تطمين السكان والمجتمع الدولي بشأن نوايا المعارضة في إدارة المرحلة الانتقالية، مؤكدًا ضرورة الحفاظ على الأمن ومنع الفوضى؛ فهذا الدور الجديد للجولاني يطرح تساؤلات حول ما إذا كانت “هيئة تحرير الشام” تتحول من فصيل متشدد إلى لاعب سياسي يسعى لاعتماد البراغماتية في مواجهة التطورات الميدانية والسياسية.
وهنا يكمن السؤال؛ هل ستُحدث هذه التحولات فرقًا في مستقبل سوريا، الذي لا يزال غامضًا تحت وطأة التحديات الداخلية والتدخلات الإقليمية والدولية؟
الجولاني .. من الطب إلى العمل الجهادي
ولد أحمد حسين الشرع، المعروف باسم أبو محمد الجولاني، عام 1982 في حي المزة الراقي بدمشق لعائلة ميسورة الحال؛ ونشأ في بيئة اجتماعية مريحة وبدأ دراسة الطب قبل أن يتجه لاحقًا إلى العمل العسكري والسياسي؛ فتعود أصول عائلته إلى مرتفعات الجولان السورية، التي نزح جدّه منها إثر احتلال إسرائيل للهضبة عام 1967.
ومع هجمات 11 سبتمبر 2001، بدأت علامات الانجذاب إلى الفكر الجهادي تظهر لدى الشرع أو “الجولاني”، حيث انخرط في اجتماعات دينية سرية بضواحي دمشق؛ فمع الاجتياح الأمريكي للعراق في عام 2003، انضم إلى تنظيم القاعدة تحت قيادة أبو مصعب الزرقاوي، وهناك اكتسب خبرة قتالية وتنظيمية، قبل أن يُعتقل ويُسجن لخمس سنوات، ليخرج ويبدأ فصلاً جديدًا مع الثورة السورية.
تحولات جوهرية في خطابه السياسي ..
ومع اندلاع الثورة السورية عام 2011، عاد الشرع إلى سوريا وأسس “جبهة النصرة”، ذراع تنظيم القاعدة في سوري، وفي عام 2013 رفض الانضمام إلى تنظيم داعش بقيادة أبو بكر البغدادي، مفضلاً البقاء تحت راية القاعدة بقيادة أيمن الظواهري، وفي عام 2016 أعلن انفصال النصرة عن القاعدة لتصبح “جبهة فتح الشام”، في خطوة تهدف لتغيير صورتها أمام المجتمع الدولي؛ إلى أن وصلنا إلى العام 2017 ؛ إذ دمجت الجماعة مع فصائل أخرى لتُشكل “هيئة تحرير الشام”، التي أصبحت أبرز قوة عسكرية وسياسية في شمال غرب سوريا.
شهد الجولاني تحولات جوهرية في خطابه السياسي؛ فقد تخلى تدريجيًا عن أيديولوجية القاعدة ذات الطابع الجهادي العالمي، وركز على أجندة محلية تهدف إلى إسقاط النظام السوري؛ وهذا ما أكد عليه في مقابلته مع شبكة “سي إن إن”؛ إذ قال: “من حقنا أن نستخدم كل الوسائل المتاحة لتحقيق هدف الثورة، وهو إسقاط هذا النظام”.
وظهر الجولاني بزي مدني أو عسكري، متخليًا عن العمامة التي ارتبطت به في بداياته، وأرسل رسائل تطمينية للمسيحيين والأقليات، مشددًا على ضرورة الحفاظ على الأمن في المناطق التي سيطرت عليها جماعته.
لجأ إلى خطاب متوازن .. والسبب !؟
وضمن مجريات الأحداث؛ فرض الجولاني في شمال غرب سوريا سيطرته على إدلب والمناطق المحيطة بها، وشكّل “حكومة الإنقاذ”، التي تدير المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة بالتعاون مع فصائل المعارضة؛ فسعى أيضًا إلى تقديم نفسه كزعيم محلي مسؤول من خلال خطاب متوازن يركز على إدارة المؤسسات وتوفير الأمن والاستقرار.
ورغم محاولاته لتقديم صورة أكثر اعتدالًا، واجهت هيئة تحرير الشام اتهامات بانتهاكات حقوق الإنسان في المناطق التي تديرها، تشمل الاعتقالات التعسفية وتقييد الحريات؛ وذلك وفقًا لتقارير أممية، إذ ترتقي بعض هذه الانتهاكات إلى مستوى جرائم حرب، مما أثارت هذه الممارسات احتجاجات في إدلب، ما سلط الضوء على التوترات بين الهيئة والسكان المحليين.
شخصيته .. بين التطرف والانتهازية
وُصف أبو محمد الجولاني بأنه “متطرف براغماتي”، إذ شهدت مسيرته تحولات كبيرة في نهجه السياسي والعسكري؛ فقد بدأ بتبني مواقف متشددة ليثبت وجوده في مواجهة تنظيم داعش، إلا أنه لاحقاً خفف من حدة خطابه في محاولة لتقديم نفسه كشخصية أكثر انفتاحاً وقابلية للتعامل مع الواقع السياسي.
وتحركاته الأخيرة تظهر محاولاته المستمرة للظهور كقائد سياسي مسؤول قادر على إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرته بطريقة تمنحه الشرعية محلياً ودولياً.
استشاري نفسي: شخصية الجولاني متناقضة؛ وسماته سيكوباتية قيادية
وفي هذا الصدد، قدم الاستشاري النفسي الدكتور عبد الرحمن مزهر، تحليلاً نفسياً مفصلاً لشخصية أبو محمد الجولاني بناءً على سلوكياته وتصريحاته خلال مقابلته التلفزيونية.
وأوضح مزهر، في تصريح خاص لـ“نخبة بوست”، أن شخصية الجولاني أظهرت العديد من السمات والتناقضات التي تعكس مزيجاً من المكر السياسي والذكاء الاجتماعي، مع ميل واضح للتلاعب والهيمنة.
وأكد مزهر أن الجولاني أظهر خلال المقابلة سلوكيات توحي بتجنب التواصل البصري مع المذيعة في بعض اللحظات، وهو سلوك يمكن تفسيره على أنه محاولة لتجنب كشف الحقيقة أو الظهور بمظهر الخجول.
وأشار مزهر إلى أن هذا التناقض في السلوك كان بارزاً، حيث أظهر الجولاني قدرة عالية على الحديث بثقة وارتياح عند التطرق إلى إنجازات شخصية أو مواقف معينة؛ موضحاً أن هذا النمط من السلوك يُعتبر من سمات الأشخاص الذين يحاولون تقديم صورة متناقضة للجمهور لتحقيق مكاسب معينة.
وأكمل مزهر بأن الجولاني كان يركّز بشكل كبير على استخدام صيغة الفرد “أنا”، ولم يظهر خطاباً يعبر عن التزامه بهوية جماعية أو ارتباطه بجماعة المقاتلين التي يقودها.
ومن حيث المظهر؛ أشار مزهر إلى أن المظهر العام للجولاني وطريقته في الحديث عن مواضيع مثل الاقتصاد والتنمية والعلاقات الدولية، أوحت بأنه يحاول تقديم نفسه كزعيم سياسي أو كرئيس دولة محتمل.
وبيّن أن الجولاني ركز بشكل ملحوظ على مخاطبة القوى الدولية، بما في ذلك الولايات المتحدة، بطريقة تنم عن ذكاء سياسي واضح، حيث حاول مغازلتهم بشكل مباشر عبر الإشادة بدورهم أو ترك الأبواب مفتوحة للتعاون.
ولاحظ مزهر بأن الجولاني أظهر مزيجاً من المراوغة وتقلب المبادئ خلال المقابلة، مما يعكس شخصية يمكن تصنيفها تحت مظلة “السيكوباتية القيادية” أو “الكاريزمية”.
وأضاف أن هذه الشخصية تُظهر عادة نوعاً من السحر والكاريزما التي تجذب المؤيدين، رغم الأساليب التلاعبية التي تستخدمها؛ مشيراً إلى أن الجولاني بدا وكأنه يحاول تقديم نفسه كشريك استراتيجي للدول المعادية للنظام السوري، عبر تقديم نفسه كورقة مفتوحة لأي تحالف محتمل.
وتابع بأن الجولاني يبدو كشخص يطمح إلى الهيمنة والسيطرة المطلقة، مستعداً لاستخدام أي وسيلة لتحقيق ذلك، بما في ذلك خلق الفتن بين الأطراف المختلفة لتحقيق مصالحه الشخصية.
وقال مزهر في ختام تحليله: إذا استلم الجولاني القيادة في سوريا، فمن المتوقع أن يتحول إلى نموذج ديكتاتوري بامتياز؛ شخصيته تشير إلى استعداد كبير لتصفية أي منافس محتمل وتعزيز هيمنته المطلقة؛ فمن المرجح أن يكون أكثر قسوة وتطرفاً في ممارساته من النظام الحالي، حيث يعتمد بشكل أساسي على المكر السياسي والتلاعب لتحقيق أهدافه، مع إعطاء الأولوية لمصالحه الشخصية على حساب الجميع.
أبو هنية: تحولات الجولاني؛ براغماتية سياسية محلية بين الراديكالية والاعتدال
ومن جهته، قدم الكاتب والمحلل السياسي حسن أبو هنية تحليلاً معمقاً لتطور الفكر السياسي لأبو محمد الجولاني، زعيم هيئة تحرير الشام (أحمد حسين الشرع)، مستعرضاً التحولات التي مرت بها مسيرته وتنظيمه منذ تأسيسه وحتى الآن.
وأوضح أبو هنية ، في تصريح خاص لـ“نخبة بوست”، بأن الجولاني مر بمراحل مفصلية تشير إلى تغيرات جوهرية في توجهاته الفكرية والسياسية.
وأكد على أن الجولاني بدأ مسيرته كزعيم لجبهة النصرة التي تأسست عام 2012 وكانت جزءاً من تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”، ثم انتقل لاحقاً إلى مبايعة تنظيم القاعدة عام 2014، وفي عام 2016، تخلى الجولاني عن ارتباطه بالقاعدة وأسس جبهة فتح الشام، التي تطورت لاحقاً لتصبح هيئة تحرير الشام عام 2017.
وأكمل أن الهيئة باتت تُعرف بأنها تنظيم ذو توجه محلي يشبه في بنيته حركة طالبان، حيث يقتصر اهتمامها على الشأن السوري، مع الحفاظ على إطارها السلفي الجهادي.
محاولات بناء خطاب سياسي براغماتي
وتطرق أبو هنية إلى أن خطاب هيئة تحرير الشام، تحت قيادة الجولاني، تطور ليشمل جوانب تتعلق بحقوق الإنسان، حقوق الأقليات، والتعاون مع القوى المحلية في سوريا.
وذكر أن الجولاني حاول تقديم رؤية منفتحة نسبياً خلال مقابلته مع شبكة “سي إن إن”، حيث تحدث عن نظام إدارة وحكم مؤسسي يشمل مكونات المجتمع السوري كافة، مع التأكيد على الهوية الدينية السلفية للجماعة.
وبيّن بأن الهيئة تمكنت من تشكيل حكومة الإنقاذ التي تدير المناطق الواقعة تحت سيطرتها في إدلب بالتعاون مع فصائل المعارضة، مع التركيز على تحقيق استقرار نسبي في تلك المناطق.
وحول مستقبل هيئة تحرير الشام، أوضح أبو هنية أن ذلك يعتمد على تطورات المشهد السوري بأبعاده المحلية والإقليمية والدولية.
وشدد أبو هنية على أن الجولاني يحاول الاستفادة من هذه الظروف لتعزيز مكانته كزعيم محلي وإقليمي، لكنه أشار إلى أن مستقبل هيئة تحرير الشام والجولاني نفسه مرهون بالتغيرات الديناميكية السريعة على الأرض، والتي قد تدفع الهيئة نحو مزيد من الاعتدال أو الراديكالية حسب الظروف؛ مشيراً إلى أن هناك غموضاً يكتنف المشهد السوري بسبب غياب رؤية دولية واضحة، مع تضارب في تقديرات الدول الإقليمية والدولية.
التحول نحو البراغماتية أو الاستمرار في الراديكالية؟
ويرى أبو هنية أن هيئة تحرير الشام تحت قيادة الجولاني قد تسلك أحد اتجاهين إما الاعتدال السياسي؛ وهو يتمثل إذا تم تحقيق استقرار نسبي وانفتاح على القوى الدولية، أو الراديكالية؛ والتي تتمثل في حال ظهور خصوم أقوياء أو تصاعد النزاعات على السلطة داخل سوريا.
واختتم أبو هنية تحليله بالقول: “تحولات الجولاني وهيئة تحرير الشام ليست مجرد تغيرات داخلية، بل هي انعكاس للتغيرات الديناميكية المحيطة بسوريا؛ ومع استمرار الغموض في المشهد السوري بعد سقوط “حكومة الأسد”، تبقى مسألة تطور الهيئة واتجاهها المستقبلي رهناً بالتطورات الإقليمية والدولية وبطبيعة الصراعات والتوازنات القائمة على الأرض“.
إلى أين يمضي الجولاني بـ “سوريا” ؟
بالاعتماد على هذه التحليلات، يبرز عدد من الأسئلة الجوهرية؛ إلى أين يمضي المشهد السوري بعد سقوط الأسد؟ وكيف سيؤثر الدور المتنامي لأبو محمد الجولاني وتحولات هيئة تحرير الشام على مستقبل البلاد؟
وهل ستتمكن الهيئة من تقديم نفسها كقوة محلية شرعية أم أنها ستغرق في تعقيدات التحالفات الإقليمية والدولية؟ وماذا عن مصير السوريين في ظل هذه التحولات، هل سيشهدون استقراراً أم أن الفوضى ستظل العنوان الأبرز للمرحلة القادمة؟ .. أسئلة عديدة تبقى رهن التغيرات التي سنشهدها في الأيام المقبلة.