شهدت ألمانيا مساء الجمعة الموافق 20 ديسمبر 2024 حادث دهس، استهدف حشودًا في أحد أسواق عيد الميلاد بمدينة ماجدبورج الواقعة بولاية ساكسونيا شرق البلاد، ما أسفر عن سقوط العشرات من القتلى والجرحى، المقدر عددهم بنحو 5 قتلى وما يزيد على 80 مصاب، فيما تشير تقديرات أخرى إلى وصول تعداد المصابين إلى 200 شخصًا. من جانبها، شددت حكومة ولاية برلين الإجراءات الأمنية في أسواق عيد الميلاد بالعاصمة الألمانية، ونفذت شرطة ماجدبورج عملية أمنية موسعة بعد عمليه الدهس، وكذا أعلنت السلطات الألمانية إلقاء القبض على المشتبه به في تنفيذ الهجوم، فيما لم تُصدر حتى الآن بيانًا بشأن الدوافع المحتملة وراء تنفيذه، واكتفت بوصفه بـ “الهجوم المنفرد”. وفي هذا السياق تقدم هذه الورقة قراءة حول حيثيات وسياقات هجوم ماجدبورج في ضوء المعلومات المتوفرة حوله، وتناقش كذلك تداعياته المحتملة خلال الفترة المقبلة.
حيثيات وسياقات الهجوم
وقع الهجوم الساعة 7:04 مساءً بالتوقيت المحلي لألمانيا يوم الجمعة 20 ديسمبر 2024، عندما قام شخصًا يقود سيارة دفع رباعي من طراز بي إم دبليو، بدهس الحشود الموجودة بأحد أسواق هدايا عيد الميلاد بمدينة ماجدبورج شرق ألمانيا، حيث اخترق الحواجز الأمنية، ثم أكمل القيادة بشكل مُتعرّج وبسرعة عالية، قاطعًا مسافة قُدّرت بـ 40 مترًا داخل السوق. وعقب ذلك بوقت قصير أعلنت السلطات الألمانية إلقاء القبض على شخصًا مشتبًها بضلوعه في تنفيذ الهجوم، وهذا الشخص تشير المعلومات المتوفرة حول هويته وخلفيته، إلى كونه مواطن سعودي الجنسية، يبلغ من العمر 50 عامًا، ويقيم في ألمانيا منذ عام 2006، ويحمل إقامة دائمة، ويعمل كطبيب متخصص في الطب النفسي، ويمارس مهنته في بيرنبورج، على بعد حوالي 40 كيلومترًا (25 ميلًا) جنوب ماجديبورج.
وخلال اللحظات الأولى التي تلت وقوع الهجوم توالت التحليلات والتكهنات بشأن الجهة المسؤولة عن تنفيذه، وفي البداية رُجّحت كفّة التحليلات القائلة بأنه جاء بدوافع إسلاموية، باعتبار أن تكتيك تنفيذه جاء داعشيًا بامتياز. غير أن المعلومات التي توفّرت بعد ذلك أخذت بوصلة التكهنات في اتجاه آخر يشي بأن الهجوم جاء مدفوعًا بدوافع فردية للانتقام من السلطات الألمانية. حيثُ تبين من فحص حساب الشخص المشتبه به على “منصة X” أنه مُلحدًا ويتبنّى توجهًا مضادًا للإسلام؛ إذ يُشارك بشكل مكثّف بعشرات التغريدات اليومية التي تُركّز على موضوعات مُعادية للدين الإسلامي والمسيحي، ويحتفي ببعض الأشخاص حملة الجنسية السعودية الذين أعلنوا تركهم للإسلام، وكذا تُركّز بعض منشوراته على اتهام السلطات الألمانية بالفشل في جهودها لمكافحة ما وصفه بـ “الإسلاموية في أوروبا”، ومؤخرًا ادّعى استهداف السلطات الألمانية لطالبي اللجوء السعوديين، كما ذكرت مجلة “دير شبيجل” الألمانية أن منشورات المشتبه به على مواقع التواصل الاجتماعي تُشير إلى تعاطفه مع حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف. وبعيدًا عن الدوافع الحقيقية الكامنة وراء تنفيذه – إذ لا يمكن الجزم بشكل مطلق بصحة التكهنات سالفة الذكر لحين التوصل لنتائج التحقيقات – يمكن القول إن ضخامة الهجوم تعكس ارتفاع المخاطر المرتبطة بالتهديدات الإرهابية في أوروبا وألمانيا على وجه الخصوص، بالنظر إلى حيثياته والسياقات المتزامنة مع توقيت تنفيذه. وهو ما يمكن توضيحه على التفصيل التالي:
1. رغم أن التصريحات الرسمية الألمانية أفادت بأن “مُنفذ الهجوم كان مهاجمًا منفردًا، واعتقدت بأنه لا يوجد أي خطر آخر على المدينة”، إلا أن تفاصيل تنفيذ الهجوم تعكس حقيقة أنه جاء متعمدًا ومنظمًا، وليس عشوائيًا بل مُخطط له مسبقًا لإصابة هدفه بامتياز، حيث قام الشخص المشتبه به باستئجار السيارة التي استقلها قبل وقت قصير من تنفيذ عملية الدهس، ويبدو أنه انتظر وقت ذروة اجتماع الحشود من العائلات والأطفال في السابعة مساءً كي يضمن وقوع أكبر عدد ممكن من الجرحى والمصابين. وهو ما يسلط الضوء على خطورة الهجمات التي تقع على غرار نمط “الذئاب المنفردة”، بغض النظر عن طبيعة الأهداف الكامنة وراءها سواء أكانت إسلاموية أو أفكار يمينة متطرفة، كونها تشكل صعوبة أمام الأجهزة الأمنية في تعقبها والمخططين لها أو التنبؤ بها قبل وقوعها.
لكن صعوبة التنبؤ بالهجمات ذات الطابع المنفرد، كالهجوم موضع التحليل، لا تنفي وجود ثغرات أمنية لدى قوات الأمن الألمانية استغلها منفذ الهجوم الأخير. فرغم أن السلطات الألمانية شددت التدابير الأمنية الاحترازية في أسواق عيد الميلاد على وجه التحديد، وقامت بوضع حواجز خرسانية عند مداخل الطرق والأسواق، لتجنب وقوع هذا النوع من الهجمات (التي بات حدوثها شائعًا خلال مواسم عيد الميلاد كل عام)، إلا أن تلك الجهود لم تقف حائلًا أمام المشتبه به ونجح في تنفيذ عملية الدهس وسط الحشود، وهو ما يطرح الشكوك والتساؤلات حول ما إذا كانت الإجراءات الأمنية المتبعة من السلطات الألمانية كافية لضمان حماية الأماكن العامة في البلاد، وما إذا كانت بحاجة إلى تطويرها بما يتواكب مع التهديدات الراهنة.
ويزيد من هذه الشكوك عدم وقوع منفذ الهجوم ضمن دوائر المتابعة الأمنية للمشتبه بميولهم المتطرفة، رغم أن منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي خلال الفترة الماضية تتضمن في ثناياها إشارات واضحة وتهديدات صريحة تعبر عن نيته استخدام العنف. ويبدو أن عدم استجابة الأجهزة الأمنية لتلك الإشارات، ربما جاء نابعًا من تركيزها في المقام الأول على التهديدات ذات الطابع الإسلاموي على حساب باقي الأفكار الأخرى المتطرفة التي لا تقل خطورة في درجة تهديدها.
2. يأتي الهجوم موضع التحليل في توقيت متزامن مع الذكرى الثامنة لهجوم مماثل نفّذه أحد عناصر تنظيم داعش على أحد أسواق عيد الميلاد في برلين عام 2016، ما أسفر عن سقوط 13 شخصًا وإصابة 70 آخرين. وفي حين يتشابه الهجومان في التكتيك المتبع (الدهس باستخدام شاحنة)، وطبيعة المستهدف (حشود أسواق عيد الميلاد)، نجد أنهما يختلفان في دوافع كل منهما؛ فبينما جاء هجوم عام 2016 بدوافع إسلاموية وتبناه تنظيم داعش بشكل صريح، لم تتبين بعد الدوافع وراء الهجوم الأخير. وربما يدفعنا هذا التشابه في التكتيك وطبيعة المستهدف إلى طرح فرضيتين:
الأولى، احتمالية أن يكون المشتبه به متأثرًا بدرجة أو بأخرى بأفكار داعش، وربما عمد إلى تصدير آراء مناهضة للإسلام كي يبقى بعيدًا عن أعين رادارات أجهزة الاستخبارات الألمانية، ومن ثم يتسنى له تنفيذ الهجوم في الوقت المناسب.
والثانية، احتمالية أن يكون قد استلهم فقط التكتيك من داعش دون اعتناق أفكاره. ويدعم هذا الطرح بعض الشواهد التي يمكن ملاحظتها من قراءة منشورات المشتبه به على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تبنى لهجة حادة تضمنت سيلًا من الاتهامات للحكومة الألمانية بخصوص “اضطهادها للاجئين السعوديين لمنعهم من انتقاد الإسلام”، على حد تعبيره. لدرجة أنه لوّح في أكتوبر الماضي باستخدام العنف ضدها قائلًا في أحد تغريداته على (منصة X): “هكذا يفرض الإسلاميون على الغرب أن يحترمهم. أما نحن الليبراليون، خصوصًا في ألمانيا حسب تجربتي، فلن يحترمنا الغرب إلا بالعنف كما يفعل الإسلاميون. وعندما أقول “يحترمنا” أقصد ألا يرتكب جرائم فظيعة ضدنا”، وهو ما يعكس اعتقاده بأهمية اتباع نهج داعش كي تستجيب السلطات الألمانية لمطالبه.
3. لا يمكن فصل هجوم ماجدبورج عن سياق تأهب السلطات الأمنية الألمانية للمخاطر الإرهابية المرتبطة بنشاط “داعش – خراسان”، ولعل هذا ما دفع التحليلات في بادئ الأمر إلى نسب تنفيذه لداعش. حيث تصاعدت منذ مطلع العام الجاري المؤشرات الدالة على تخطيط التنظيم لاستهداف ألمانيا وعدد من الدول الأوروبية، لعل أبرزها:
أ. وقوع هجمات دامية وحوادث طعن من قبل عناصر وخلايا نائمة وذئاب منفردة متأثرة بالفكر الداعشي، ومن ذلك على سبيل المثال، إعلان التنظيم في أغسطس 2024 مسؤوليته عن عملية طعن وقعت في مدينة زولينغن الألمانية أسفرت عن مقتل 3 أشخاص وإصابة 8 آخرين.
ب. تركيز الجهود الدعائية لداعش منذُ مطلع العام الجاري على بلورة الأحداث الراهنة وفي مقدمتها “حرب غزة” في خطاب جهادي يُحفّز المُتعاطفين مع التنظيم على شن هجمات على نمط “الذئاب المنفردة” ضد الدول الأوروبية وخصوصًا ألمانيا؛ انتقامًا من دعمها لإسرائيل. وكان لافتًا حرص التنظيم على أن تكون متون دعاياه الجهادية في هذا الإطار مصحوبة بمبادئ توجيهية لأعضائه حول “طبيعة الأهداف” التي يُمكن استهدافها على غرار الكنائس والمعابد والأماكن العامة وغيرها، وكذا “التكتيكات والأسلحة” المُستخدمة من قبيل حوادث الطعن والدهس والقنابل الحارقة والتفجيرات الانتحارية.
ج. تكرار عمليات المُطاردة والاعتقال التي تقوم بها السلطات الألمانية لعشرات العناصر والخلايا التابعة لداعش، ومن أحدثها على سبيل المثال وليس الحصر، إعلانها في 10 ديسمبر الجاري إلقاء القبض على شاب مراهق (17 عامًا) كان يخطط لشن هجوم إرهابي في احتفالات عيد الميلاد باستخدام شاحنة.
د. رصد عمليات تسلل لبعض العناصر التابعة لـ “داعش – خراسان” ضمن موجات اللاجئين الأوكرانيين التي تدفقت إلى ألمانيا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ استغل التنظيم السماح للأجانب بالحصول على جوازات سفر أوكرانية، ونظام الإعفاء من التأشيرات بين دول الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، في تسهيل عملية الزج ببعض عناصره لشن هجمات على الأراضي الألمانية والأوروبية. وثمة شواهد كثيرة على ذلك من بينها؛ رصد مسؤولو الأمن الألمان زيادة في عدد الأفراد من آسيا الوسطى، وخاصة طاجيكستان، الذين يتنكرون في هيئة لاجئين أوكرانيين، ويستخدمون وثائق مزورة وروايات وهمية للتهرب من عمليات التفتيش. كما كشفت عملية لقوات الأمن في ألمانيا في يوليو 2023 عن خلية جهادية مُشتبه بها دخلت أوروبا من أوكرانيا تضم 7 أفراد من آسيا الوسطى على صلة بتنظيم داعش كانوا يخططون لشن هجمات إرهابية. وفي السياق ذاته، اعتقلت الشرطة الألمانية في ديسمبر 2023 مواطنًا طاجيكيًا يبلغ من العمر 30 عامًا للاشتباه في قيامه بالتخطيط لهجوم إرهابي على كاتدرائية كولونيا، وتشير المصادر إلى أنه كان على صلة بتنظيم داعش خراسان، ووصل إلى أوروبا من أوكرانيا.
تداعيات خطرة
ينطوي هجوم ماجدبورج، مضافًا إليه مؤشرات تنامي مخاطر تنظيم داعش على جملة من التداعيات السلبية على المشهد السياسي والأمني في ألمانيا وفي أوروبا بشكل عام، أبرزها ما يلي:
أولًا، بجانب خسائرها البشرية، تُكبد تلك المخاطر الحكومة الألمانية خسائر اقتصادية فادحة، تفاقم من التحديات الاقتصادية التي تواجهها بالفعل. ناهيك عن تأثيراتها المعنوية الكبيرة؛ إذ تؤدي إلى خلق حالة من الذعر بين المدنيين، وتثير الشكوك حول قدرة الأجهزة الألمانية على التصدي للتهديدات الإرهابية.
ثانيًا، تُتيح الهجمات الإرهابية التي يضطلع اللاجئون المقيمون بألمانيا بتنفيذها، ورقة انتخابية مجانية لأحزاب اليمين المتطرف التي تتبنى رؤية معادية للاجئين، وتشترك في كراهيتها للأجانب وتمسكها الحاد المتطرف بالقيم الوطنية والهوية اللغوية والثقافية والسياسية. حيثُ يُعتبر ملف الهجرة أحد الأسباب الرئيسية المُغذّية لصعود أحزاب وجماعات اليمين المتطرف في أوروبا عمومًا وألمانيا خصوصًا، جرّاء تبعات سياسات الهجرة واللجوء التي تبنتها المُستشارة الألمانية السابقة “إنجيلا ميركل”؛ إذ تعتقد تلك الجماعات في أن تزايد مُعدلات الهجرة هو السبب الأول للمعضلات السياسية والاقتصادية والأمنية التي تواجها المُجتمعات الأوروبية، وأنها تُسهم في انزلاق الهويات الوطنية الأوروبية إلى منحنيات خطرة، ومن ثمّ ينبغي حمايتها من العناصر الأجنبية المُعادية التي تُمثل تهديدًا لها. وعليه، تكمن الخطورة في تزامن الهجوم مع الدعوة لانتخابات اتحادية مبكرة في 23 فبراير المقبل ومن ثم تتعاظم فرص توظيفه من قِبل حزب البديل من أجل ألمانيا بغرض تعظيم مكاسبه الانتخابية. وبشكل عام، تُنشئ الهجمات الإرهابية التي ينفذها اللاجئون حلقة مفرغة من العنف والعنف المضاد، تبدأ مع تحفيزها لصعود جماعات اليمين المتطرف، وقيامها بشن جرائم عنيفة ضد المهاجرين الأجانب، وتأجيج خطابات الكراهية ضد المسلمين وربطهم بالإرهاب، ما يفاقم بالتبعية ظاهرة “الإسلاموفوبيا” (سجلت ألمانيا 1464 جريمة ضد الإسلام والمسلمين خلال 2023 ونحو 137 جريمة خلال الربع الأول من 2024) التي يؤطرها داعش وغيرة من التنظيمات الإرهابية في صورة الحرب على الإسلام، ويستغلها في متونه الجهادية للتحفيز على شن هجمات انتقامية ضد الغرب.
ثالثًا، يكشف هجوم ماجدبورج أن البصمة التكتيكية للذئاب المنفردة المرتبطة بالتنظيمات التي تتبع أيديولوجية جهادية مثل داعش اكتسبت جاذبية معينة لدى بعض العناصر ذات الميول الراديكالية رغم عدم انتمائهم لجماعات الإرهاب الأيديولوجي الإسلاموي، الأمر الذي يرتب أعباء إضافية على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية ويشتت جهودها، ذلك لأن هذا النوع من الهجمات يتيح لمنفذيها إمكانية التسلل من بين القيود الأمنية، كونها يصعب التنبؤ بها قبل وقوعها، ناهيك عن أن تنفيذها لا يحتاج إلى تدريب احترافي، ويسهل التخطيط لها من قبل منفذيها.
ختامًا، يمكن القول إن هجوم ماجدبورج يضاف إلى جملة المؤشرات الدالة على تنامي المخاطر الإرهابية في ألمانيا وأوروبا بشكل عام. لاسيما مع بقاء احتمالات قيام تنظيم داعش بتنفيذ هجمات مماثلة خلال الفترة المقبلة قائمة، بالتزامن مع موسم احتفالات عيد الميلاد التي تعد هدفًا رئيسيًا للتنظيم لشن هجماته في أوروبا.